الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قال: أفترضون الكفر والمعاصي التي هي من قضاء الله؟

قيل له: نحن نطلق الرضا بالقضاء في الجملة، ولا نطلقه على التفصيل لموضع الإبهام، كما يقول المسلمون كافة: الأشياء لله، ولا يقولون في التفصيل: الولد والصاحبة والشريك لله، وكما يقولون: الخلق يفنون ويبيدون، ولا يقولون: حجج الله تفنى وتبيد، في نظائر لهذا من القول الذي يطلق من وجه ويمنع من وجه.

ثم يقال لهم: أو ليس قد قضى بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعجز المسلمين عن دفع الكفار، والاستيلاء على ثغورهم وسبي نسائهم، وقضى إعانة الفراعنة والشياطين وسائر الكفار، وبقاءهم واستظهارهم على المؤمنين؟

فإذا قالوا: أجل.

قيل لهم: أفترضون بذلك أجمع؟ [ ص: 216 ] فإن قالوا: نعم.

قيل لهم مثله فيما سألونا عنه، وخرقوا الإجماع في ركوب هذا الإطلاق. وإن قالوا: لا.

قيل لهم مثله فيما طالبونا به .

قلت: وقد بسطوا هذا القول أكثر، فقالوا -واللفظ للقاضي أبي يعلى-: قلت: أما تفصيل القول في الرضا بأن بعض المخلوق نرضى به وبعضه لا نرضى به فصواب، لكن لم يثبتوا ما هو الذي نرضى به، فإن قولهم "الذي أمرنا أن نريده ونرضاه" إن كان مرادهم نرضى بما أمرنا أن نفعله وهو الذي أمرنا بإرادته، فالرضا أعم من ذلك، فإنه ينبغي الرضا بأمور غير أفعالنا التي أمرنا بها؟ وإن كان مقصودهم بكل ما أمرنا أن نريده ونرضاه وإن لم يكن من فعلنا.

قلت: فهذا جواب حسن، لكن لا يستقيم على أصل أتباع أبي الحسن في قوله الذي خالف به المتقدمين واتبع فيه الجهمية والقدرية، حيث قال معهم: إن المحبة والرضا هي الإرادة، وفرعوا على ذلك أن الله لا يجوز أن يحب ذاته، كما لا يجوز أن تراد ذاته، فإن الإرادة إنما تتعلق بالمتجدد، وهو ما كان معدوما فأريد حدوثه.

قال أبو المعالي: ومما اختلف أهل الحق في إطلاقه ومنع إطلاقه: المحبة والرضا، فصار المتقدمون إلى أنه سبحانه لا يحب الكفر ولا يرضاه، وكذلك كل معصية. وقال شيخنا أبو الحسن: المحبة هي [ ص: 217 ] الإرادة نفسها، وكذلك الرضا والاصطفاء، فيقول: إنه سبحانه يريد الكفر ويرضاه كفرا قبيحا معاقبا عليه، ويحب أن يكون على ما هو عليه. وليس معنى قوله: "إنه يحبه ويرضاه" أنه يراه حسنا أو يثني على صاحبه بفعله، بل يذمه بفعله ويلعنه ويعاقبه عليه.

قال أبو المعالي: ومن أصحابنا من قال: نأخذ هذه الإطلاقات بالشرع، فما لم يرد الشرع بإطلاقه لا نطلقه، وهذا هو الأولى، وربما يقول هذا القائل: المحبة من الله صفة خبرية، يتبع في ذلك الخبر.

قال أبو المعالي: وإذا ثبت أن المحبة هي الإرادة فيترتب على ذلك أن يعلم أنه سبحانه لا تتعلق به المحبة على الحقيقة، فإنها هي الإرادة، والإرادة لا تتعلق إلا بمتجدد.

قلت: وهذا القول الذي قاله أبو الحسن هو اختيار القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى في أحد قوليه الذي يقول فيه: إن الإرادة والرضا والمحبة واحد، كما قاله في "المعتمد" . وهذا خلاف المعروف عن المتقدمين من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم، كأبي بكر بن عبد العزيز وغيره، فإنهم يفرقون بين المحبة والرضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية