الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق السابع والعشرون بين قاعدة المواقيت الزمانية وبين قاعدة المواقيت المكانية ) أما المواقيت الزمانية فهي ثلاثة أشهر شوال وذو القعدة وذو الحجة وقيل عشر من ذي الحجة وأصلها قوله تعالى { الحج أشهر معلومات } فقوله { أشهر } صيغة جمع منكر وأقله ثلاثة أو يقال إن الحج ينقضي بالفراغ من الرمي فيكفي عشر من ذي الحجة تخصيصا للصيغة بالواقع وهذا هو مدرك الخلاف وأما ميقات المكان فهو ما في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنه وقت لأهل المدينة ذا الحليفة [ ص: 170 ] ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم وقال هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة } زاد مسلم { ولأهل العراق ذات عرق } فقال مالك رحمه الله يجوز الإحرام بالحج قبل المكاني والزماني غير أنه في الزماني يكره قبله وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز قبل الزماني فيحتاج الفريقان إلى الفرق بين القاعدتين إما باعتبار الكراهة وعدمها وإما باعتبار المنع وعدمه والفرق من وجوه لفظية ومعنوية الفرق الأول

من قبل اللفظ وذلك أن القاعدة العربية أن المبتدأ يجب انحصاره في الخبر والخبر لا يلزم انحصاره في المبتدأ كقوله عليه السلام { تحريمها التكبير وتحليلها التسليم } والشفعة فيما لم ينقسم فالتحريم ينحصر في التكبير من غير عكس والتحليل ينحصر في التسليم من غير عكس والشفعة منحصرة فيما لم ينقسم من غير عكس وعلى هذه القاعدة يكون زمان الحج منحصرا في الأشهر لأنه المبتدأ فلا يوجد في غيرها وأما الميقات المكاني فيجعل محصورا مبتدأ لا محصورا فيه لقوله عليه السلام { هن لهن ولمن أتى عليهن } أي المواقيت لإحرام أهل هذه الجهات بدليل قوله ولمن أتى عليهن فالضمير الأول للمواقيت فهو المبتدأ فيكون هو المحصور والمحصور لا يجب أن يكون محصورا فيه بخلاف الميقات الزماني محصور فيه فلا يوجد الإحرام بدونه وفي المكاني محصور فأمكن أن يوجد الإحرام بدونه فهذا فرق جليل من حيث اللفظ فاعتبره الشافعي رحمه الله في المشروعية فلا يوجد الإحرام مشروعا قبل الزماني واعتبره مالك في الكمال فلا يوجد قبل الزماني كاملا بل ناقص الفضيلة الفرق الثاني

أن الإحرام قبل الزماني يفضي إلى طول زمان الحج وهو ممنوع من النساء وغيرهن فربما أدى ذلك إلى إفساد الحج فإن من أحرم قبل شوال لا يمكنه الإحلال حتى [ ص: 171 ] تنقضي أيام الرمي وأما المواقيت المكانية فلا يلزم من الإحرام قبلها طول الحج فلا يكون ذلك وسيلة إلى إفساده الفرق الثالث

أن الميقات المكاني يثبت الإحرام بعده فيثبت قبله تسوية بين الطرفين والميقات الزماني لا يثبت الإحرام بعده بأصل الشريعة بل لضرورة فلا يثبت قبله تسوية بين الطرفين وهذا فرق بينهما بأن سوينا بينهما وهو من الفروق الغريبة .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق السابع والعشرون بين قاعدة المواقيت الزمانية وبين قاعدة المواقيت المكانية إلى منتهى قوله [ ص: 170 ] فيحتاج الفريقان إلى الفرق بين القاعدتين إما باعتبار الكراهة وعدمها وإما باعتبار المنع وعدمه ) قلت ما قاله في ذلك صحيح ظاهر غير قوله إن مالكا يكره الإحرام قبل الزماني دون المكاني فإن المعروف من المذهب الكراهة فيهما معا فلا يحتاج إلى الفرق إلا على مذهب الشافعي قال

( والفرق من وجوه لفظية ومعنوية الفرق الأول من قبل اللفظ وذلك أن القاعدة العربية أن المبتدأ يجب انحصاره في الخبر والخبر لا يلزم انحصاره في المبتدأ إلى آخر قوله في هذا الفرق )

قلت القاعدة العربية التي ادعاها من انحصار المبتدأ في الخبر مختلف فيها والأصح عدم صحتها وأن ذلك من باب المفهوم لا من باب المنطوق فيجري فيه الخلاف الذي في المفهوم وما أرى الإمامين مالكا والشافعي بنيا عليها والله أعلم قال

( الفرق الثاني أن الإحرام قبل الزماني يفضي إلى الطول إلى آخر ما قاله في هذا الفرق )

قلت كان يمكن أن يكون ما ذكره فرقا [ ص: 171 ] في مذهب الشافعي لولا أنه يقول في القديم إن إحرام المحرم من بلده أفضل استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم { من تمام الحج والعمرة أن تحرم بهما من دويرة أهلك } وقال في الجديد بكراهة الإحرام قبل الميقات وتأوله أهل مذهبه وعلى تقدير عدم تأويله لا حاجة إلى الفرق إلا فيما بين الكراهة والمنع إن لم تحمل الكراهة عليه قال ( الفرق الثالث أن الميقات المكاني يثبت لإحرام بعده فيثبت قبله تسوية بين الطرفين إلخ )

قلت هذا الفرق ضعيف جدا وقد تبين أن مالكا لا يحتاج إلى فرق والشافعي كذلك والله أعلم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق السابع والعشرون بين قاعدة المواقيت الزمانية للحج وبين قاعدة المواقيت المكانية له ) أما المواقيت الزمانية فقال [ ص: 186 ] ابن العربي في أحكامه ما حاصله لا خلاف في أن أشهر الحج في قوله تعالى { الحج أشهر معلومات } شوال وذو القعدة وذو الحجة إلا أن الخلاف في جعله ذا الحجة كله وهو قول ابن عمر وقتادة وطاوس ومالك نظر الأمرين الأول أن أشهر في الآية صيغة جمع منكر وأقله ثلاثة الثاني أنه إذا أخر طواف الإفاضة إلى آخره لم يكن عليه دم لأنه جاء به في أيام الحج أو جعله ذا الحجة بعضه نظر الأمرين أيضا الأول تخصيص الصيغة بالواقع والثاني كون بعض الشهر يسمى شهرا لغة واختلف في المراد بالبعض فقال مالك أيضا وأبو حنيفة عشرة أيام منه لأن الطواف والرمي في العقبة ركنان يفعلان في اليوم العاشر وقال ابن عباس والشافعي عشر ليال من ذي الحجة لأن الحج يكمل بطلوع الفجر يوم النحر لصحة الوقوف بعرفة وهو الحج كله وقال مالك أيضا إلى آخر أيام التشريق لأن الرمي من أفعال الحج وشعائره والفائدة في ذكر الله تعالى لأشهر الحج وتنصيصه عليها أمران

أحدهما أن الله تعالى وصفها كذلك في ملة إبراهيم عليه السلام واستمرت عليه الحال إلى أيام الجاهلية فبقيت كذلك حتى كانت العرب ترى أن العمرة فيها من أفجر الفجور ولكنها كانت تغيرها فتنسئها وتقدمها حتى عادت حجة الوداع إلى حدها قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في المأثور المنتقى { إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا } الحديث الثاني أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر التمتع وهو ضم العمرة إلى الحج في أشهر الحج بين أن أشهر الحج ليست جميع الشهور في العام وإنما هي المعلومات من لدن إبراهيم عليه السلام وبين قوله تعالى { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } أن جميعها ليس الحج تفصيلا لهذه الجملة وتخصيصا لبعضها بذلك وهي شوال وذو القعدة وجميع ذي الحجة وهو اختيار عمر رضي الله تعالى عنه وصحيح قول علمائنا فلا يكون متمتعا من أحرم بالعمرة في أشهر العام وإنما يكون متمتعا من أتى بالعمرة في هذه الأشهر المخصوصة . ا هـ .

بزيادة وأما المواقيت المكانية فهي ما في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم { أنه وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم وقال هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة } زاد مسلم { ولأهل العراق ذات عرق } وقد نظمت هذه الخمسة المواقيت المكانية مبينا بعدها من مكة وأهل كل بقولي

قرن لنجد ذات عرق للعراق يلملم اليمني من أم القرى للكل مرحلتان جحفة شامنا
ست حليفة عشر للمدني ترى

والمعروف من مذهب مالك كراهة الإحرام بالحج قبل المكاني والزماني معا وانعقاده وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز قبل الزماني ولا ينعقد حجا بل إن كان حلالا انعقد عمرة وإلا فهو لغو لأن العمرة لا تدخل على أخرى والحج لا يتقدم على وقته كما في حاشية ابن حجر على إيضاح النووي وقال في القديم إن إحرام المحرم من بلده أفضل استدلالا بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم { من تمام الحج والعمرة أن تحرم بهما من دويرة أهلك } وقال في الجديد بكراهة الإحرام قبل الميقات وتأوله أهل مذهبه فلا يحتاج إلى الفرق على مذهب مالك بل ولا على [ ص: 187 ] مذهب الشافعي نعم على تقدير عدم تأويل قوله في الجديد بكراهة الإحرام قبل الميقات يحتاج إلى الفرق فيما بين الكراهة والمنع إن لم تحمل الكراهة عليه قاله ابن الشاط .

وفي إيضاح النووي ويجوز أن يحرم قبل وصوله الميقات من دويرة أهله ومن غيرها وفي الأفضل قولان الصحيح أنه يحرم من الميقات اقتداء برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والثاني من دويرة أهله ا هـ ولا يخفاك أنه يحتاج إلى الفرق على الصحيح المذكور في كلام النووي من حمل الكراهة في الجديد على خلاف الأفضل أيضا بين خلاف الأفضل والمنع ويمكن الفرق في الحالتين بأن الإحرام قبل الزماني يفضي إلى طول زمان الحج وهو ممنوع من النساء وغيرهن فربما أدى ذلك إلى إفساد الحج فإن من أحرم قبل شوال لا يمكنه الإحلال حتى تقضى أيام الرمي وأما المواقيت المكانية فلا يلزم من الإحرام قبلها طول الحج فلا يكون ذلك وسيلة إلى إفساده كما أنه يحتاج إلى الفرق بين الشافعي لا يرى الإحرام في غير أشهر الحج كما لا يرى أحد الإحرام قبل وقت الصلاة بها وبين مالك وأبي حنيفة يقولان بصحة الإحرام بالحج قبل أشهره قال ابن العربي في أحكامه والمسألة مشكلة معضلة وقد استوفينا البيان فيها وأوضحنا لبابه في كتاب التلخيص وأن القول فيها دائر من قبل الشافعي على أن الإحرام ركن من الحج مختص بزمانه ومعولنا على أنه شرط فيقدم عليه وهناك تبين الترجيح بين النظرين وظهر أول التأويلين في الآية من القولين أي من قول الشافعي وغيره أن تقدير الآية الحج حج أشهر معلومات وقول مالك وغيره أن تقديرها أشهر الحج أشهر معلومات . ا هـ .

وكذلك يحتاج إلى الفرق على مذهب مالك بين الحج يصح الإحرام به قبل وقته مع الكراهة وبين الصلاة يمتنع تقديم الإحرام بها قبل وقتها ويلزم المقدم له بإعادته واعتقاد وجوبه وفي تفسير ابن عرفة ما حاصله أن إحرام الحج أمر مستصحب بحيث لا يزال حكمه منسحبا على الحاج في جميع أجزاء حجه التي لا يتأتى فعلها إلا في وقته وكل أمر مستصحب كذلك يصح تقديمه على الوقت وإحرام الصلاة بخلاف ذلك فافهم والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية