الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
الحادي عشر : أن لفظ اليد جاء في القرآن على ثلاثة أنواع : مفردا ومثنى ومجموعا ، فالمفرد كقوله : ( بيده الملك ) والمثنى كقوله : ( خلقت بيدي ) والمجموع ( عملت أيدينا ) فحيث ذكر اليد مثناة أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد وعدى الفعل بالباء إليها فقال ( خلقت بيدي ) وحيث ذكرها مجموعة أضاف العمل إليها ولم يعد الفعل بالباء ، فهذه ثلاثة فروق فلا يحتمل ( خلقت بيدي ) من المجاز ما يحتمله ( عملت أيدينا ) فإن كل أحد يفهم من قوله : ( عملت أيدينا ) ما [ ص: 41 ] يفهمه من قوله : عملنا وخلقنا ، كما يفهم ذلك من قوله : ( فبما كسبت أيديكم ) ، وأما قوله : ( خلقت بيدي ) فلو كان المراد منه مجرد الفعل لم يكن لذكر اليد بعد نسبة الفعل إلى الفاعل معنى ، فكيف وقد دخلت عليها الباء ؟ فكيف إذا ثنيت ؟

وسر الفرق أن الفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد المراد الإضافة إليه كقوله : ( بما قدمت يداك ) ( فبما كسبت أيديكم ) وأما إذا أضيف إليه الفعل ثم عدي بالباء إلى يده مفردة أو مثناة فهو مما باشرته به ، ولهذا قال عبد الله بن عمرو : ( إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثا : خلق آدم بيده ، وغرس جنة الفردوس بيده ، وكتب التوراة بيده ) . فلو كانت اليد هي القدرة لم يكن لها اختصاص بذلك ولا كانت لآدم فضيلة بذلك على كل شيء مما خلق بالقدرة ) .

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الموقف يأتونه يوم القيامة فيقولون : " يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده " وكذلك قال آدم لموسى في محاجته له : " اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده " ، وفي لفظ آخر : " كتب لك التوراة بيده " وهو من أصح الأحاديث ، وكذلك الحديث المشهور " أن الملائكة قالوا : يا رب خلقت بني آدم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون ، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة ، فقال الله تعالى : لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن [ ص: 42 ] فكان " وهذا التخصيص إنما فهم من قوله : ( خلقت بيدي ) فلو كان مثل قوله : ( مما عملت أيدينا ) لكان هو والأنعام في ذلك سواء .

فلما فهم المسلمون أن قوله : ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) يوجب له تخصيصا وتفضيلا بكونه مخلوقا باليدين على من أمر أن يسجد له ، وفهم ذلك أهل الموقف حين جعلوه من خصائصه ، كانت التسوية بينه وبين قوله : ( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما ) خطأ محضا ، كذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " يقبض الله سماواته بيده والأرض باليد الأخرى " وقوله صلى الله عليه وسلم : " يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق ؟ فإنه لم يغض ما في يمينه ، وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع " وقال تعالى : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ) وفي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ، في أعلى أهل الجنة منزلة : " أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها " .

وقال أنس بن مالك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده فقال لها : تكلمي ، فقالت : قد أفلح المؤمنون " ، وقال عبد الله بن الحارث : [ ص: 43 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق ثلاثة أشياء بيده : خلق آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس الفردوس بيده ، ثم قال : وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث " ، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : " تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفأها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة " .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاح الصلاة : " لبيك وسعديك والخير كله بيدك " وفي الصحيح أيضا عنه صلى الله عليه وسلم : " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل " وقال عبد الله بن مسعود : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأيدي ثلاثة : فيد الله العليا ، ويد المعطي التي تليها ، ويد السائل السفلى " وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال : " المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين " .

وفي المسند وغيره من حديث أبى هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال : الحمد لله ، فحمد الله بإذن الله ، فقال له ربه : يرحمك ربك يا آدم ، وقال له : اذهب إلى أولئك الملائكة إلى نفر جلوس فقل : السلام عليكم ، فذهب فقالوا : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، ثم رجع إلى ربه ، فقال : هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم ، فقال الله تعالى ، ويداه مقبوضتان : اختر أيهما شئت ، فقال : اخترت يمين ربي ، وكلتا يدي ربي يمين مباركة ، ثم بسطها فإذا فيها آدم [ ص: 44 ] وذريته . . . الحديث " ، وقال عمر بن الخطاب : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خلق الله آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية ، فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون " .

وقال هشام بن حكيم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله أخذ ذرية بني آدم من ظهورهم وأشهدهم على أنفسهم ، ثم فاض بهم في كفيه ، ثم قال : هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار " ، وقال عبد الله بن عمرو : " لما خلق الله آدم نفضه نفض المزود فقبض قبضتين ، فقال لما في اليمين : في الجنة ، وقال لما في الأخرى : في النار " وقال أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، فمنهم الأحمر والأبيض والأسود ، وبين ذلك ، والسهل والحزن والطيب والخبيث " .

[ ص: 45 ] وقال سلمان الفارسي " إن الله خمر طينة آدم أربعين ليلة وأربعين يوما ، ثم ضرب بيديه فيها فخرج كل طيب بيمينه وخرج كل خبيث بيده الأخرى " وقال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تصدق أحد بصدقة من طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، إلا أخذها الرحمن بيمينه ، وإن كانت ثمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل " متفق عليه .

وقال أنس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف " فقال أبو بكر : زدنا يا رسول الله قال " وهكذا " وجمع يديه ، قال : زدنا يا رسول الله قال : " وهكذا " قال : زدنا يا رسول الله ، فقال عمر : حسبك ، فقال أبو بكر : دعني يا عمر ، وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا ، فقال عمر : إن شاء الله أدخل خلقه الجنة بكف واحدة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " صدق عمر " وقال نافع عن ابن عمر : سألت ابن أبي مليكة عن يد الله واحدة أو اثنتان ؟ فقال : لا ، بل اثنتان . وقال ابن عباس رضي الله عنه : " ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهما في كف الرحمن إلا كخردلة في كف أحدكم " ، وقال ابن عمر وابن عباس : " أول شيء خلقه الله القلم ، فيأخذه بيمينه ، وكلتا يديه يمين ، فكتب الدنيا وما فيها من عامل ومعمول في بر وبحر ورطب ويابس فأحصاه عنده " .

وقال ابن عباس في قوله تعالى : ( والسماوات مطويات بيمينه ) " يقبض الله عليهما فما يرى طرفها في يده " وقال ابن عمر رضي الله عنه : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر فقال : إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة جمع السماوات والأرض في قبضته ، ثم قال هكذا : ومد يده وبسطها ، ثم يقول : أنا الله أنا الرحمن . . . " الحديث ، وقال [ ص: 46 ] ابن وهب عن أسامة عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر : ( والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ) قال : " مطوية بيمينه يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة " وقال عبيد الله بن مقسم : نظرت إلى عبد الله بن عمر كيف صنع ، يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " يأخذ الله سماواته وأرضيه بيده ، فيقول : أنا الله " ، ويقبض أصابعه ويبسطها " ويقول : أنا الرحمن أنا الملك " حتى إني أنظر إلى المنبر يتحرك من أسفل منه حتى إني أقول : أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وقال زيد بن أسلم : لما كتب الله التوراة بيده قال : " باسم الله ، هذا كتاب الله بيده لعبده موسى يسبحني ويقدسني ولا يحلف باسمي آثما ، فإني لا أزكي من حلف باسمي آثما " .

وإنما ذكرنا هذه النصوص التي هي غيض من فيض ليعلم الواقف عليها أنها لا يفهم أحد من عقلاء بني آدم منها شخصا له شق واحد وعليه أيد كثيرة ، وله ساق واحدة ، وله أعين كثيرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية