الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 187 ] ( الفرق الثلاثون بين قاعدة تمليك الانتفاع وبين قاعدة تمليك المنفعة ) فتمليك الانتفاع نريد به أن يباشر هو بنفسه فقط وتمليك المنفعة هو أعم وأشمل فيباشر بنفسه ويمكن غيره من الانتفاع بعوض كالإجارة وبغير عوض كالعارية مثال الأول سكنى المدارس والرباط والمجالس في الجوامع والمساجد والأسواق ومواضع النسك كالمطاف والمسعى ونحو ذلك فله أن ينتفع بنفسه فقط ولو حاول أن يؤاجر بيت المدرسة أو يسكن غيره أو يعاوض عليه بطريق من طرق المعاوضات امتنع ذلك وكذلك بقية النظائر المذكورة معه وأما مالك المنفعة فكمن استأجر دارا أو استعارها فله أن يؤاجرها من غيره أو يسكنه بغير عوض ويتصرف في هذه المنفعة تصرف الملاك في أملاكهم على جري العادة على الوجه الذي ملكه فهو تمليك مطلق في زمن خاص حسبما تناوله عقد الإجارة أو أشهدت به العادة في العارية فمن شهدت له العادة في العارية بمدة كانت له تلك المدة ملكا على الإطلاق يتصرف كما يشاء بجميع الأنواع السائغة في التصرف في المنفعة في تلك المدة ويكون تمليك هذه المنفعة كتمليك الرقاب . وهاهنا أربع مسائل ( المسألة الأولى ) النكاح من باب تمليك أن ينتفع لا من باب تمليك المنفعة فإنه يباشره بنفسه وليس له أن يمكن غيره من تلك المنفعة وليس مالكا للمنفعة ولا لبضع المرأة بل مقتضى عقد النكاح أنه ينتفع هو خاصة لا مالك المنفعة ( المسألة الثانية )

الوكالة بغير عوض تقتضي أنه ملك من الوكيل أن ينتفع به بنفسه ولم يملك منفعته فلا يجوز له أن يهب الانتفاع بذلك الوكيل لغيره بل ينتفع به بنفسه أو يهمله أو يعزله فهي من باب تمليك الانتفاع لا من باب تمليك المنفعة [ ص: 188 ] وأما الوكالة بعوض فهي من باب الإجارة فمن ملك المنفعة فله بيع ما ملك ويمكن منه غيره ما لم يكن الموكل عليه لا يقبل البدل ( المسألة الثالثة )

القراض يقتضي عقده أن رب العمل ملك من العامل الانتفاع لا المنفعة بدليل أنه ليس له أن يعاوض على ما ملكه من العامل من غيره ولا يؤاجره ممن أراد بل يقتصر على الانتفاع بنفسه على الوجه الذي اقتضاه عقد القراض وكذلك المساقاة والمغارسة وأما ما ملكه العامل في القراض والمساقاة فهو ملك عين لا ملك منفعة ولا انتفاع وتلك العين هي ما يخرج من ثمرة أو يحصل من ربح في القراض فيملك نصيبه على الوجه الذي اقتضاه العقد ( المسألة الرابعة )

إذا وقف وقفا على أن يسكن أو على السكنى ولم يزد على ذلك فظاهر اللفظ يقتضي أن الواقف إنما ملك الموقوف عليه الانتفاع بالسكنى دون المنفعة فليس له أن يؤاجر غيره ولا يسكنه وكذلك إذا صدرت صيغة تحتمل تمليك الانتفاع أو تمليك المنفعة وشككنا في تناولها للمنفعة قصرنا الوقف على أدنى الرتب وهي تمليك الانتفاع دون تمليك المنفعة فإن قال في لفظ الوقف ينتفع بالعين الموقوفة بجميع أنواع الانتفاع فهذا تصريح بتمليك المنفعة أو يحصل من القرائن ما يقوم مقام هذا التصريح من الأمور العادية أو الحالية فإنا نقضي بمقتضى تلك القرائن ومتى حصل الشك وجب القصر على أدنى الرتب لأن القاعدة أن الأصل بقاء الأملاك على ملك أربابها والنقل والانتقال على خلاف الأصل فمتى شككنا في رتب الانتقال حملنا على أدنى الرتب استصحابا للأصل في الملك السابق وعلى هذه القاعدة مسائل في المذهب فرع مرتب حيث قلنا إن الملك إنما يتناول الانتفاع دون المنفعة فقد يستثنى من ذلك تسويغ الانتفاع لغير المالك في المدة اليسيرة كأهل المدارس والربط فإنه يجوز لهم إنزال الضيف المدة اليسيرة لأن العادة جرت بذلك فدلت العادة على أن الواقف يسمح في ذلك بخلاف المدة [ ص: 189 ] الكثيرة لا تجوز فلا يجوز لأحد أن يسكن بيتا من المدرسة دائما ولا مدة طويلة فإن العادة جرت في ذلك بتمليك الانتفاع لا بتمليك المنفعة .

وكذلك لو عمد أحد لإيجار بيت المدرسة من الناس من أنكر ذلك عليه فدل ذلك على أنه إنما يملك الانتفاع دون المنفعة ومن هذا الباب لو جعل بيتا في المدرسة لخزن القمح أو غيره دائما أو المدة الطويلة امتنع أيضا لأن العادة شهدت وألفاظ الواقفين على أن البيوت وقف على السكنى فقط فإن وضع فيها ما يخزن الزمان اليسير جاز كإنزال الضيف ومن هذا الباب ما يوقف من الصهاريج للماء والشرب في المدارس والخوانك لا يجوز بيعه ولا هبته للناس ولا صرفه لنفسه في وجوه غريبة لم تجر العادة بها كالصبغ وبياض الكتان بأن يكون صباغا مبيضا للكتان فيصرف ذلك الماء في الصبغ والبياض دائما فهذا لا يجوز لأن العادة وألفاظ الواقفين شهدت بأنه موقوف للشرب فقط ويستثنى من ذلك الصبغ اليسير والبياض اليسير ونحوه ونظير هذه المسألة إطعام الضيف لا يجوز له أن يبيعه ولا يملكه غيره بل يأكله هو خاصة على جري العادة وله إطعام الهر اللقمة واللقمتين ونحوهما لشهادة العادة بذلك ومن هذا الباب الحصر الموضوعة في المدارس والربط والبسط المفروشة في زمن الشتاء ليس للموقوف عليه أن يتخذها غطاء بل لا تستعمل الأوطاء فقط لأن العادة وألفاظ الواقفين شهدت بذلك وكذلك الزيت للاستصباح ليس لأحد أن يأكله وإن كان من أهل الوقف كما تقدم في طعام الضيف فهذه الأعيان وإن لم تكن من باب المنافع بل من باب تمليك الأعيان ولكن التمليك فيها مقصور على جهة خاصة بشهادة العوائد والأصل بقاء أملاك الواقفين على الموقوف من الأعيان والمنافع إلا ما دل الدليل على انتقاله عن أملاكهم وقس على هذه المسائل ما يقع لك منها واحمل مسائل تمليك الانتفاع على بابها ومسائل تمليك المنفعة على بابها

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق الثلاثون بين قاعدة تمليك الانتفاع وبين قاعدة تمليك المنفعة ) قلت ما قاله في هذا الفرق صحيح ظاهر .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الثلاثون بين قاعدة تمليك الانتفاع وبين قاعدة تمليك المنفعة ) تمليك الانتفاع عبارة عن الإذن للشخص في أن يباشر هو بنفسه فقط كالإذن في سكنى المدارس والربط والمجالس في الجوامع والمساجد والأسواق ومواضع النسك كالمطاف والمسعى ونحو ذلك فلمن أذن له في ذلك أن ينتفع بنفسه فقط ويمتنع في حقه أن يؤاجر أو يعاوض بطريق من طرق المعاوضات أو يسكن غيره لبيت المدرسة أو غيره من بقية النظائر المذكورة معه وتمليك المنفعة عبارة عن الإذن للشخص في أن يباشر هو بنفسه أو يمكن غيره من الانتفاع بعوض كالإجارة وبغير عوض كالعارية كمن استأجر دارا أو استعارها فله أن يؤاجرها من غيره أو يسكنه بغير عوض وأن يتصرف في هذه المنفعة تصرف الملاك في أملاكهم على جري العادة على الوجه الذي ملكه فهو تمليك مطلق في زمن خاص حسبما تناوله عقد الإجارة أو شهدت به العادة في العارية فمن شهدت له العادة في العارية بمدة كانت له تلك المدة ملكا على الإطلاق يتصرف كما يشاء بجميع الأنواع السائغة في التصرف في المنفعة في تلك المدة ويكون تمليك هذه المنفعة كتمليك الرقاب ( وصل ) في أربع مسائل تتعلق بهذا الفرق .

( المسألة الأولى ) النكاح من حيث إن مقتضى عقده أن يباشر الزوج منفعته بنفسه خاصة وليس له أن يمكن غيره من تلك المنفعة لكونه ليس مالكا للمنفعة ولا لبضع الزوجة كان من باب تمليك الانتفاع لا من باب تمليك المنفعة ( المسألة الثانية ) الوكالة إن كانت بغير عوض كانت من باب تمليك الانتفاع لا من باب تمليك المنفعة لأنها تقتضي حينئذ أن الموكل ملك من الوكيل أن ينتفع به بنفسه ولم يملك منفعته فلا يجوز له أن يهب الانتفاع بذلك الوكيل لغيره بل ينتفع به بنفسه أو يهمله أو يعزله وإن كانت بعوض كانت من [ ص: 194 ] باب تمليك المنفعة لأنها حينئذ من باب الإجارة فللموكل بيع ما ملك وأن يمكن منه غيره ما لم يكن الموكل عليه لا يقبل البدل كتوكيله في بيع الرهن الذي عند مرتهن فإنه لا يقبل إبدال من وكل عليه بغيره لتعلق حق المرتهن بالوكيل وفي خصام إذا قاعد الوكيل الخصم كثلاث فإنه لا يقبل إبدال الوكيل كما في خليل وشرحه ( المسألة الثالثة ) عقد كل من القراض والمساقاة والمغارسة يقتضي أن رب المال ملك من العامل الانتفاع لا المنفعة بدليل أنه ليس له أن يعاوض على ما ملكه من العامل من غيره ولا يؤاجره ممن أراد بل يقتصر على الانتفاع بنفسه على الوجه الذي اقتضاه العقد وأما ما ملكه العامل في القراض والمساقاة فهو ملك عين لا ملك منفعة ولا انتفاع وتلك العين هي ما يخرج من ثمرة في المساقاة أو يحصل من ربح في القراض فيملك نصيبه على الوجه الذي اقتضاه العقد .

( المسألة الرابعة ) ظاهر قول الواقف وقفت هذا على أن يسكنه أو على سكنى طلبة العلم مثلا ولم يزد على ذلك يقتضي أنه إنما ملك الموقوف عليه الانتفاع بالسكنى دون المنفعة فليس للموقوف عليه أن يؤاجر غيره ولا أن يسكنه دائما أو المدة الطويلة ولا أن يجعله لخزن القمح أو غيره دائما أو المدة الطويلة وأما إنزال الضيف وخزن القمح وغيره المدة اليسيرة في المدارس والربط فيجوز ذلك لأهلها لأن العادة لما جرت بذلك دلت على أن الواقف يسمح في ذلك ومما يحمل على تمليك الانتفاع لا تمليك المنفعة الصيغة التي صدرت من الواقف تحتملها وشككنا في تناولها المنفعة لأن القاعدة أن الأصل بقاء الأملاك على ملك أربابها والنقل والانتقال على خلاف الأصل فلذا متى شككنا في رتب الانتقال حملناه على أدنى الرتب استصحابا للأصل في الملك السابق وعلى هذه القاعدة مسائل في المذهب وبالجملة فقول الواقف إما أن يكون نصا في تمليك المنفعة بنفسه كقوله ينتفع بالعين الموقوفة بجميع أنواع الانتفاع أو بالقرائن القائمة مقام التصريح بالمنفعة من الأمور العادية في الصيغة المحتملة فيجب حمله على المنفعة لا الانتفاع

وإما أن يكون ظاهرا في تمليك الانتفاع كقوله وقفته على أن يسكن أو على السكنى ولم يزد على ذلك فيجب حمله على الانتفاع لا المنفعة كما إذا كان محتملا لتمليك الانتفاع أو تمليك المنفعة بلا قرينة حتى حصل الشك في تناولها للمنفعة لوجوب حمله حينئذ على أدنى الرتب استصحابا للأصل في الملك السابق للقاعدة المارة وكذلك يجري فيما كان من باب تمليك الأعيان وقد شهدت العادة وألفاظ الواقفين بقصره على جهة خاصة نحو ما يوقف في المدارس والخوانك من الصهاريج لماء الشرب فلا يجوز بيع الماء المذكور ولا هبته للناس ولا صرفه لنفسه في وجوه غريبة لم تجر العادة بها كالصبغ وبياض الكتان بأن يكون صباغا مبيضا للكتان فيصرف ذلك الماء في الصبغ والبياض دائما لأن العادة وألفاظ الواقفين شهدت بأنه موقوف للشرب فقط نعم يجوز صرفه للصبغ اليسير والبياض اليسير ونحوه ونحو الحصر والبسط المفروشة في المدارس والربط لا تستعمل الأوطاء فقط وليس للموقوف عليه أن يتخذها غطاء في زمن الشتاء لأن العادة وألفاظ الواقفين شهدت بذلك وكوقف الزيت للاستصباح ليس [ ص: 195 ] لأحد أن يأكله .

وإن كان من أهل الوقف كما لا يجوز للضيف أن يبيع الطعام المعد لضيافته ولا أن يملكه لغيره بل يأكله هو خاصة على جري العادة نعم له إطعام الهر اللقمة واللقمتين ونحوهما لشهادة العادة بذلك وقس على هذه المسائل ما يقع لك منها واحمل مسائل تمليك الانتفاع على بابها ومسائل تمليك المنفعة على بابها ومسائل تمليك الأعيان على الجهة التي قصرتها العادة وألفاظ الواقفين عليها وأجر المحتمل على أصل بقاء أملاك الواقفين على الموقوف على الأعيان والمنافع إلا ما دل الدليل على انتقاله عن أملاكهم والله أعلم .




الخدمات العلمية