الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ تخصيص القرآن بالسنة جائز ]

يوضحه الوجه الثالث عشر : أن تخصيص القرآن بالسنة جائز كما أجمعت الأمة على تخصيص قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } بقوله صلى الله عليه وسلم : { لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها } وعموم قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } بقوله صلى الله عليه وسلم : { لا يرث المسلم الكافر } وعموم قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } بقوله صلى الله عليه وسلم : { لا قطع في ثمر ولا كثر } ونظائر ذلك كثيرة ; فإذا جاز التخصيص - وهو رفع بعض ما تناوله اللفظ ، وهو نقصان من معناه فلأن تجوز الزيادة التي لا تتضمن رفع شيء من مدلوله ولا نقصانه بطريق الأولى والأحرى .

الوجه الرابع عشر : أن الزيادة لا توجب رفع المزيد لغة ولا شرعا ولا عرفا ولا عقلا ، ولا تقول العقلاء لمن ازداد خيره أو ماله أو جاهه أو علمه أو ولده إنه قد ارتفع شيء مما في الكيس ، بل تقول في : الوجه الخامس عشر : إن الزيادة قررت حكم المزيد وزادته بيانا وتأكيدا ; فهي كزيادة العلم والهدى والإيمان ، قال تعالى : { وقل رب زدني علما } وقال : { وما [ ص: 229 ] زادهم إلا إيمانا وتسليما } وقال : { وزدناهم هدى } وقال { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } فكذلك زيادة الواجب على الواجب إنما يزيده قوة وتأكيدا وثبوتا ، فإن كانت متصلة به اتصال الجزاء والشرط كان ذلك أقوى له وأثبت وآكد ، ولا ريب أن هذا أقرب إلى المعقول والمنقول والفطرة من جعل الزيادة مبطلة للمزيد عليه ناسخة له .

الوجه السادس عشر : أن الزيادة لم تتضمن النهي عن المزيد ولا المنع منه ، وذلك حقيقة النسخ ، وإذا انتفت حقيقة النسخ استحال ثبوته .

الوجه السابع عشر : أنه لا بد في النسخ من تنافي الناسخ والمنسوخ ، وامتناع اجتماعهما ، والزيادة غير منافية للمزيد عليه ولا اجتماعهما ممتنع .

الوجه الثامن عشر : أن الزيادة لو كانت نسخا لكانت إما نسخا بانفرادها عن المزيد أو بانضمامها إليه ، والقسمان محال ; فلا يكون نسخا : أما الأول فظاهر ; لأنها لا حكم لها بمفردها ألبتة ; فإنها تابعة للمزيد عليه في حكمه ، وأما الثاني فكذلك أيضا ; لأنها إذا كانت ناسخة بانضمامها إلى المزيد كان الشيء ناسخا لنفسه ومبطلا لحقيقته ، وهذا غير معقول ، وأجاب بعضهم عن هذا بأن النسخ يقع على حكم الفعل دون نفسه وصورته ، وهذا الجواب لا يجدي عليهم شيئا ، والإلزام قائم بعينه ; فإنه يوجب أن يكون المزيد عليه قد نسخ حكم نفسه وجعل نفسه إذا انفرد عن الزيادة غير مجزئ بعد أن كان مجزئا .

الوجه التاسع عشر : أن النقصان من العبادة لا يكون نسخا لما بقي منها ، فكذلك الزيادة عليها لا تكون نسخا لها ، بل أولى ; لما تقدم .

الوجه العشرون : أن نسخ الزيادة للمزيد عليه : إما أن يكون نسخا لوجوبه أو لإجزائه ، أو لعدم وجوب غيره ، أو لأمر رابع ، وهذا كزيادة التغريب مثلا على المائة جلدة ، لا يجوز أن تكون ناسخة لوجوبها فإن الوجوب بحاله ، ولا لإجزائها ; لأنها مجزئة عن نفسها ، ولا لعدم وجوب الزائد لأنه رفع لحكم عقلي وهو البراءة الأصلية ; فلو كان رفعها نسخا كان كلما أوجب الله شيئا بعد الشهادتين قد نسخ به ما قبله ، والأمر الرابع غير متصور ولا معقول فلا يحكم عليه .

فإن قيل : بل ههنا أمر رابع معقول ، وهو الاقتصار على الأول ; فإنه نسخ بالزيادة ، وهذا غير الأقسام الثلاثة . [ ص: 230 ]

فالجواب أنه لا معنى للاقتصار غير عدم وجوب غيره ، وكونه جميع الواجب ، وهذا هو القسم الثالث بعينه غيرتم التعبير عنه وكسوتموه عبارة أخرى .

الوجه الحادي والعشرون : أن الناسخ والمنسوخ لا بد أن يتواردا على محل واحد يقتضي المنسوخ ثبوته والناسخ رفعه ، أو بالعكس ، وهذا غير متحقق في الزيادة على النص .

الوجه الثاني والعشرون : أن كل واحد من الزائد والمزيد عليه دليل قائم بنفسه مستقل بإفادة حكمه ، وقد أمكن العمل بالدليلين ; فلا يجوز إلغاء أحدهما وإبطاله وإلقاء الحرب بينه وبين شقيقه وصاحبه ; فإن كل ما جاء من عند الله فهو حق يجب اتباعه والعمل به ، ولا يجوز إلغاؤه وإبطاله إلا حيث أبطله الله ورسوله بنص آخر ناسخ له لا يمكن الجمع بينه وبين المنسوخ ، وهذا بحمد الله منتف في مسألتنا ; فإن العمل بالدليلين ممكن ، ولا تعارض بينهما ولا تناقض بوجه ; فلا يسوغ لنا إلغاء ما اعتبره الله ورسوله ، كما لا يسوغ لنا اعتبار ما ألغاه ، وبالله التوفيق .

الوجه الثالث والعشرون : أنه إن كان القضاء بالشاهد واليمين ناسخا للقرآن وإثبات التغريب ناسخا للقرآن فالوضوء بالنبيذ أيضا ناسخ للقرآن ، ولا فرق بينهما ألبتة ، بل القضاء بالنكول ومعاقد القمط يكون ناسخا للقرآن ، وحينئذ فنسخ كتاب الله بالسنة الصحيحة الصريحة التي لا مطعن فيها أولى من نسخه بالرأي والقياس والحديث الذي لا يثبت ، وإن لم يكن ناسخا للقرآن لم يكن هذا نسخا له ، وأما أن يكون هذا نسخا وذاك ليس بنسخ فتحكم باطل وتفريق بين متماثلين .

الوجه الرابع والعشرون : أن ما خالفتموه من الأحاديث التي زعمتم أنها زيادة على نص القرآن إن كانت تستلزم نسخه فقطع رجل السارق في المرة الثانية نسخ ; لأنه زيادة على القرآن ، وإن لم يكن هذا نسخا فليس ذلك نسخا .

الوجه الخامس والعشرون : أنكم قلتم لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم ، وذلك زيادة على ما في القرآن ; فإن الله سبحانه أباح استحلال البضع بكل ما يسمى مالا ، وذلك يتناول القليل والكثير ، فزدتم على القرآن بقياس في غاية الضعف ، وبخبر في غاية البطلان ; فإن جاز نسخ القرآن بذلك فلم لا يجوز نسخه بالسنة الصحيحة الصريحة ؟ وإن كان هذا ليس بنسخ لم يكن الآخر نسخا .

الوجه السادس والعشرون : أنكم أوجبتم الطهارة للطواف بقوله : { الطواف بالبيت [ ص: 231 ] صلاة } وذلك زيادة على القرآن ; فإن الله إنما أمر بالطواف ولم يأمر بالطهارة ، فكيف لم تجعلوا ذلك نسخا للقرآن وجعلتم القضاء بالشاهد واليمين والتغريب في حد الزنا نسخا للقرآن ؟ الوجه السابع والعشرون : أنكم مع الناس أوجبتم الاستبراء في جواز وطء المسبية بحديث - ورد - زائد على كتاب الله ، ولم تجعلوا ذلك نسخا له ، وهو الصواب بلا شك ، فهلا فعلتم ذلك في سائر الأحاديث الزائدة على القرآن ؟ الوجه الثامن والعشرون : أنكم وافقتم على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها بخبر الواحد ، وهو زائد على كتاب الله تعالى قطعا ، ولم يكن ذلك نسخا ، فهلا فعلتم ذلك في خبر القضاء بالشاهد واليمين والتغريب ولم تعدوه نسخا ؟ وكل ما تقولونه في محل الوفاق يقوله لكم منازعوكم في محل النزاع حرفا بحرف .

الوجه التاسع والعشرون : أنكم قلتم : لا يفطر المسافر ولا يقصر في أقل من ثلاثة أيام ، والله تعالى قال : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } وهذا يتناول الثلاثة وما دونها ، فأخذتم بقياس ضعيف أو أثر لا يثبت في التحديد بالثلاث ، وهو زيادة على القرآن ، ولم تجعلوا ذلك نسخا ، فكذلك الباقي .

الوجه الثلاثون : أنكم منعتم قطع من سرق ما يسرع إليه الفساد من الأموال مع أنه سارق حقيقة ولغة وشرعا ; لقوله : { لا قطع في ثمر ولا كثر } ولا يجعلوا ذلك نسخا للقرآن وهو زائد عليه .

الوجه الحادي والثلاثون : أنكم رددتم السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسح على العمامة ، وقلتم : إنها زائدة على نص الكتاب فتكون ناسخة له فلا تقبل ، ثم ناقضتم فأخذتم بأحاديث المسح على الخفين وهي زائدة على القرآن ، ولا فرق بينهما ، واعتذرتم بالفرق بأن أحاديث المسح على الخفين متواترة بخلاف المسح على العمامة ، وهو اعتذار فاسد ، فإن من له اطلاع على الحديث لا يشك في شهرة كل منها وتعدد طرقها واختلاف مخارجها وثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا .

الوجه الثاني والثلاثون : أنكم قبلتم شهادة المرأة الواحدة على الرضاع والولادة وعيوب النساء ، مع أنه زائد على ما في القرآن ، ولم يصح الحديث به صحته بالشاهد واليمين ، ورددتم هذا ونحوه بأنه زائد على القرآن .

الوجه الثالث والثلاثون : أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه لا يحرم [ ص: 232 ] أقل من خمس رضعات ، ولا تحرم الرضعة والرضعتان ، وقلتم : هي زائدة على القرآن ، ثم أخذتم بخبر لا يصح بوجه ما في أنه لا قطع في أقل من عشرة دراهم أو ما يساويها ، ولم تروه زيادة على القرآن ، وقلتم : هذا بيان للفظ السارق ; فإنه مجمل والرسول بينه بقوله : { لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم } فيا لله العجب ، كيف كان هذا بيانا ولم يكن حديث التحريم بخمس رضعات بيانا لمجمل قوله : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } ولا تأتون بعذر في آية القطع إلا كان مثله أو أولى منه في آية الرضاع سواء بسواء .

الوجه الرابع والثلاثون : أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسح على الجوربين ، وقلتم : هي زائدة على القرآن ، وجوزتم الوضوء بالخمر المحرمة من نبيذ التمر المسكر بخبر لا يثبت وهو خلاف القرآن .

الوجه الخامس والثلاثون : أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصوم عن الميت والحج عنه ، وقلتم : هو زائد على قوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } ثم جوزتم أن تعمل أعمال الحج كلها عن المغمى عليه ، ولم تروه زائدا على قوله : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وأخذتم بالسنة الصحيحة وأصبتم في حمل العاقلة الدية عن القاتل خطأ ولم تقولوا هو زائد على قوله : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } واعتذاركم بأن الإجماع ألجأكم إلى ذلك لا يفيد ; لأن عثمان البتي - وهو من فقهاء التابعين - يرى أن الدية على القاتل ، وليس على العاقلة منها شيء ، ثم هذا حجة عليكم أن تجمع الأمة على الأخذ بالخبر وإن كان زائدا على القرآن .

الوجه السادس والثلاثون : أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اشتراط المحرم أن يحل حيث حبس ، وقلتم : هو زائد على القرآن ، فإن الله أمر بإتمام الحج والعمرة ، والإحلال خلاف الإتمام ، ثم أخذتم وأصبتم بحديث تحريم لبن الفحل ، وهو زائد على ما في القرآن قطعا .

الوجه السابع والثلاثون : ردكم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوضوء من مس الفرج وأكل لحوم الإبل ، وقلتم : ذلك زيادة على القرآن ; لأن الله تعالى إنما ذكر الغائط ، ثم أخذتم بحديث ضعيف في إيجاب الوضوء من القهقهة وخبر ضعيف في إيجابه من القيء ، ولم يكن إذ ذاك زائدا على ما في القرآن إذ هو قول متبوعكم ; فمن العجب إذا قال من قلدتموه قولا زائدا على ما في القرآن قبلتموه وقلتم : ما قاله إلا بدليل ، وسهل عليكم [ ص: 233 ] مخالفة ظاهر القرآن حينئذ ، وإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا زائدا على ما في القرآن قلتم : هذا زيادة على النص ، وهو نسخ ، والقرآن لا ينسخ بالسنة ، فلم تأخذوا به ، واستصعبتم خلاف ظاهر القرآن ، فهان خلافه إذا وافق قول من قلدتموه ، وصعب خلافه إذا وافق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم .

الوجه الثامن والثلاثون : أنكم أخذتم بخبر ضعيف لا يثبت في إيجاب المضمضة والاستنشاق في الغسل من الجنابة ، ولم تروه زائدا على القرآن ، ورددتم السنة الصحيحة الصريحة في أمر المتوضئ بالاستنشاق ، وقلتم : هو زائد على القرآن ، فهاتوا لنا الفرق بين ما يقبل من السنن الصحيحة ، وما رد منها ، فإما أن تقبلوها كلها ، وإن زادت على القرآن ، وإما أن تردوها كلها إذا كانت زائدة على القرآن ، وأما التحكم في قبول ما شئتم منها ورد ما شئتم منها ، فما لم يأذن به الله ولا رسوله ، ونحن نشهد الله شهادة يسألنا عنها يوم نلقاه أنا لا نرد لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة واحدة صحيحة أبدا إلا بسنة صحيحة مثلها نعلم أنها ناسخة لها .

الوجه التاسع والثلاثون : أنكم رددتم السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القسم للبكر سبعا يفضلها بها على من عنده من النساء وللثيب ثلاثا إذا أعرس بهما وقلتم : هذا زائد على العدل المأمور به في القرآن ومخالف له ، فلو قبلناه كنا قد نسخنا به القرآن ، ثم أخذتم بقياس فاسد واه لا يصح في جواز نكاح الأمة لواجد الطول غير خائف العنت إذا لم تكن تحته حرة ، وهو خلاف ظاهر القرآن وزائد عليه قطعا .

الوجه الأربعون : ردكم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاط نفقة المبتوتة وسكناها ، وقلتم : هو مخالف للقرآن ، فلو قبلناه كان نسخا للقرآن به ، ثم أخذتم بخبر ضعيف لا يصح أن عدة الأمة قرءان وطلاقها طلقتان مع كونه زائدا على ما في القرآن قطعا .

الوجه الحادي والأربعون : ردكم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخيير ولي الدم بين الدية أو القود أو العفو بقولكم : إنها زائدة على ما في القرآن ، ثم أخذتم بقياس من أفسد القياس أنه لو ضربه بأعظم دبوس يوجد حتى ينثر دماغه على الأرض فلا قود عليه ، ولم تروا ذلك مخالفا لظاهر القرآن ، والله تعالى يقول : { النفس بالنفس } ويقول : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } .

الوجه الثاني والأربعون : أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : { لا يقتل مسلم بكافر } وقوله : { المؤمنون تتكافأ دماؤهم } وقلتم : هذا خلاف ظاهر القرآن ; لأن الله تعالى يقول : { النفس بالنفس } وأخذتم بخبر لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه [ ص: 234 ] { لا قود إلا بالسيف } وهو مخالف لظاهر القرآن ; فإنه سبحانه قال : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } وقال : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } .

الوجه الثالث والأربعون : أنكم أخذتم بخبر لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه { لا جمعة إلا في مصر جامع } وهو مخالف لظاهر القرآن قطعا وزائدة عليه ، ورددتم الخبر الصحيح الذي لا شك في صحته عند أحد من أهل العلم في أن كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا ، وقلتم : هو خلاف ظاهر القرآن في وجوب الوفاء بالعقد .

الوجه الرابع والأربعون : أنكم أخذتم بخبر ضعيف { لا تقطع الأيدي في الغزو } وهو زائد على القرآن ، وعديتموه إلى سقوط الحدود على من فعل أسبابها في دار الحرب ، وتركتم الخبر الصحيح الذي لا ريب في صحته في المصراة ، وقلتم : هو خلاف ظاهر القرآن من عدة أوجه .

الوجه الخامس والأربعون : أنكم أخذتم بخبر ضعيف - بل باطل - في أنه لا يؤكل الطافي من السمك ، وهو خلاف ظاهر القرآن ; إذ يقول تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه } فصيده ما صيد منه حيا وطعامه قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو ما مات فيه ، صح ذلك عن الصديق وابن عباس وغيرهما ، ثم تركتم الخبر الصحيح المصرح بأن ميتته حلال مع موافقته لظاهر القرآن .

الوجه السادس والأربعون : أنكم أخذتم وأصبتم بحديث تحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير ، وهو زائد على ما في القرآن ، ولم تروه ناسخا ، ثم تركتم حديث حل لحوم الخيل الصحيح الصريح ، وقلتم : هو مخالف لما في القرآن زائد عليه ، وليس كذلك .

الوجه السابع والأربعون : أنكم أخذتم بحديث المنع من توريث القاتل مع أنه زائد على القرآن ، وحديث عدم القود على قاتل ولده وهو زائد على ما في القرآن ، مع أن الحديثين ليسا في الصحة بذاك ، وتركتم الأخذ بحديث إعتاق النبي صلى الله عليه وسلم لصفية وجعل عتقها صداقها فصارت بذلك زوجة ، وقلتم : هذا خلاف ظاهر القرآن ، والحديث في غاية الصحة .

الوجه الثامن والأربعون : أنكم أخذتم بالحديث الضعيف الزائد على ما في القرآن ، وهو { كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه } فقلتم : هذا يدل على وقوع طلاق المكره [ ص: 235 ] والسكران ، وتركتم السنة الصحيحة التي لا ريب في صحتها فيمن وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به ، وقلتم : هو خلاف ظاهر القرآن بقوله : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } والعجب أن ظاهر القرآن مع الحديث متوافقان متطابقان ; فإن منع البائع من الوصول إلى الثمن وإلى عين ماله إطعام له بالباطل الغرماء ; فخالفتم ظاهر القرآن مع السنة الصحيحة الصريحة .

الوجه التاسع والأربعون : أنكم أخذتم بالحديث الضعيف وهو { من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له } ولم تقولوا : هو زائد على القرآن في قوله : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وتركتم الحديث الصحيح في بقاء الإحرام بعد الموت وأنه لا ينقطع به ، وقلتم : هو خلاف ظاهر القرآن في قوله : { هل تجزون إلا ما كنتم تعملون } وخلاف ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : { إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث } .

الوجه الخمسون : رد السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب الموالاة ، حيث أمر الذي ترك لمعة من قدمه بأن يعيد الوضوء والصلاة ، وقالوا : هو زائد على كتاب الله ، ثم أخذوا بالحديث الضعيف الزائد على كتاب الله في أن { أقل الحيض ثلاثة أيام ، وأكثره عشرة } .

الوجه الحادي والخمسون : رد الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه { لا نكاح إلا بولي } ، وأن من أنكحت نفسها فنكاحها باطل ، وقالوا : هو زائد على كتاب الله ; فإن الله تعالى يقول : { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } وقال : { فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف } ثم أخذوا بالحديث الضعيف الزائد على القرآن قطعا في اشتراط الشهادة في صحة النكاح . والعجب أنهم استدلوا على ذلك بقوله : { لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل } ثم قالوا : لا يفتقر إلى حضور الولي ولا عدالة الشاهدين .

فهذا طرف من بيان تناقض من رد السنن بكونها زائدة على القرآن فتكون ناسخة فلا تقبل .

الوجه الثاني والخمسون : أنكم تجوزون الزيادة على القرآن بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون للأمة فيه قولان : أحدهما أنه باطل مناف للدين ، والثاني أنه صحيح مؤخر عن الكتاب والسنة ; فهو في المرتبة الأخيرة ، ولا تختلفون في جواز إثبات حكم زائد على القرآن به ، فهلا قلتم : إن ذلك يتضمن نسخ الكتاب بالقياس . [ ص: 236 ] فإن قيل : قد دل القرآن على صحة القياس واعتباره وإثبات الأحكام به ، فما خرجنا عن موجب القرآن ، ولا زدنا على ما في القرآن إلا بما دلنا عليه القرآن .

قيل : فهلا قلتم مثل هذا سواء في السنة الزائدة على القرآن ، وكان قولكم ذلك في السنة أسعد وأصلح من القياس الذي هو محل آراء المجتهدين وعرضة للخطأ ، بخلاف قول من ضمنت لنا العصمة في أقواله ، وفرض الله علينا اتباعه وطاعته .

فإن قيل : القياس بيان لمراد الله ورسوله من النصوص ، وأنه أريد بها إثبات الحكم في المذكور في نظيره ، وليس ذلك زائدا على القرآن ، بل تفسير له وتبيين .

قيل : فهلا قلتم : إن السنة بيان لمراد الله من القرآن ، تفصيلا لما أجمله ، وتبيينا لما سكت عنه ، وتفسيرا لما أبهمه ، فإن الله سبحانه أمر بالعدل والإحسان والبر والتقوى ، ونهى عن الظلم والفواحش والعدوان والإثم ، وأباح لنا الطيبات ، وحرم علينا الخبائث ; فكل ما جاءت به السنة فإنها تفصيل لهذا المأمور به والمنهي عنه ، والذي أحل لنا هو الذي حرم علينا .

وهذا تبيين بالمثال التاسع عشر : وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في حديث النعمان بن بشير أن يعدل بين الأولاد في العطية فقال { اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم } . وفي الحديث : { إني لا أشهد على جور } فسماه جورا ، وقال { إن هذا لا يصلح } وقال { أشهد على هذا غيري } تهديدا له ، وإلا فمن الذي يطيب قلبه من المسلمين أن يشهد على ما حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه جور وأنه لا يصلح وأنه على خلاف تقوى الله وأنه خلاف العدل ؟ وهذا الحديث من تفاصيل العدل الذي أمر الله به في كتابه ، وقامت به السماوات والأرض ، وأسست عليه الشريعة ; فهو أشد موافقة للقرآن من كل قياس على وجه الأرض ، وهو محكم الدلالة غاية الإحكام ، فرد بالمتشابه من قوله { كل أحد أحق بماله من ولده ، ووالده والناس أجمعين } فكونه أحق به يقتضي جواز تصرفه فيه كما يشاء وبقياس متشابه على إعطاء الأجانب ، ومن المعلوم بالضرورة أن هذا المتشابه من العموم ، والقياس لا يقاوم هذا المحكم المبين غاية البيان .

التالي السابق


الخدمات العلمية