الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون ( 2 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : الله ، يا محمد هو الذي رفع السماوات السبع بغير عمد ترونها ، فجعلها للأرض سقفا مسموكا .

و "العمد" جمع "عمود" وهي السواري ، وما يعمد به البناء ، كما قال النابغة :


وخيس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد

[ ص: 323 ]

وجمع "العمود" "عمد" كما جمع الأديم : "أدم" ولو جمع بالضم فقيل : "عمد" جاز ، كما يجمع "الرسول" "رسل" ، و "الشكور" "شكر" .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( رفع السماوات بغير عمد ترونها ) .

فقال بعضهم : تأويل ذلك : الله الذي رفع السماوات بعمد لا ترونها .

ذكر من قال ذلك :

20051 - حدثنا أحمد بن هشام قال : حدثنا معاذ بن معاذ قال : حدثنا عمران بن حدير ، عن عكرمة قال : قلت لابن عباس : إن فلانا يقول : إنها على عمد يعني السماء؟ قال : فقال : اقرأها ( بغير عمد ترونها ) : أي لا ترونها .

20052 - حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، عن عمران بن حدير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .

20053 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا عفان قال : حدثنا حماد قال : حدثنا حميد ، عن الحسن بن مسلم ، عن مجاهد في قوله : ( بغير عمد ترونها ) ، قال : بعمد لا ترونها .

20054 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج قال : حدثنا حماد ، عن حميد ، عن الحسن بن مسلم ، عن مجاهد ، في قول الله : ( بغير عمد ترونها ) قال : هي : لا ترونها . [ ص: 324 ]

20055 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( بغير عمد ) يقول : عمد [ لا ترونها ] .

20056 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

20057 - . . . . . . قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الحسن وقتادة قوله : ( الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ) قال قتادة : قال ابن عباس : بعمد ولكن لا ترونها .

20058 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا شريك ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قوله : ( رفع السماوات بغير عمد ترونها ) قال : ما يدريك؟ لعلها بعمد لا ترونها .

ومن تأول ذلك كذلك ، قصد مذهب تقديم العرب الجحد من آخر الكلام إلى أوله ، كقول الشاعر


ولا أراها تزال ظالمة     تحدث لي نكبة وتنكؤها

يريد : أراها لا تزال ظالمة ، فقدم الجحد عن موضعه من "تزال" وكما قال الآخر :

[ ص: 325 ]

إذا أعجبتك الدهر حال من امرئ     فدعه وواكل حاله واللياليا
يجئن على ما كان من صالح به     وإن كان فيما لا يرى الناس آليا

يعني : وإن كان فيما يرى الناس لا يألو .

وقال آخرون ، بل هي مرفوعة بغير عمد .

ذكر من قال ذلك :

20059 - حدثنا محمد بن خلف العسقلاني قال : أخبرنا آدم قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن إياس بن معاوية ، في قوله : ( رفع السماوات بغير عمد ترونها ) قال : السماء مقببة على الأرض مثل القبة .

20060 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( بغير عمد ترونها ) قال : رفعها بغير عمد .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال كما قال الله تعالى : ( الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ) فهي مرفوعة بغير عمد نراها ، كما قال ربنا جل ثناؤه . ولا خبر بغير ذلك ، ولا حجة يجب التسليم لها بقول سواه .

وأما قوله : ( ثم استوى على العرش ) فإنه يعني : علا عليه .

وقد بينا معنى الاستواء واختلاف المختلفين فيه ، والصحيح من القول فيما قالوا فيه ، بشواهده فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

[ ص: 326 ]

وقوله : ( وسخر الشمس والقمر ) يقول : وأجرى الشمس والقمر في السماء ، فسخرهما فيها لمصالح خلقه ، وذللهما لمنافعهم ، ليعلموا بجريهما فيها عدد السنين والحساب ، ويفصلوا به بين الليل والنهار .

وقوله : ( كل يجري لأجل مسمى ) يقول جل ثناؤه : كل ذلك يجري في السماء ( لأجل مسمى ) : أي : لوقت معلوم ، وذلك إلى فناء الدنيا وقيام القيامة التي عندها تكور الشمس ، ويخسف القمر ، وتنكدر النجوم .

وحذف ذلك من الكلام لفهم السامعين من أهل لسان من نزل بلسانه القرآن معناه ، وأن ( "كل" ) لا بد لها من إضافة إلى ما تحيط به .

وبنحو الذي قلنا في قوله : ( لأجل مسمى ) قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

20061 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ) قال : الدنيا .

وقوله : ( يدبر الأمر ) يقول تعالى ذكره : يقضي الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها أمور الدنيا والآخرة كلها ، ويدبر ذلك كله وحده ، بغير شريك ولا ظهير ولا معين ، سبحانه .

[ ص: 327 ]

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

20062 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( يدبر الأمر ) يقضيه وحده .

20063 - . . . . . . . . . قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .

20064 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه .

وقوله : ( يفصل الآيات ) يقول : يفصل لكم ربكم آيات كتابه ، فيبينها لكم احتجاجا بها عليكم ، أيها الناس ( لعلكم بلقاء ربكم توقنون ) يقول : لتوقنوا بلقاء الله ، والمعاد إليه ، فتصدقوا بوعده ووعيده ، وتنزجروا عن عبادة الآلهة والأوثان ، وتخلصوا له العبادة إذا أيقنتم ذلك .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

20065 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( لعلكم بلقاء ربكم توقنون ) ، وإن الله تبارك وتعالى إنما أنزل كتابه وأرسل رسله ، لنؤمن بوعده ، ونستيقن بلقائه .

التالي السابق


الخدمات العلمية