الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      التفسير:

                                                                                                                                                                                                                                      ذكر المفسرون: أن التوراة افتتحت بقوله: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض الآية، وختمت بقوله: الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك [الإسراء: 111]، إلى آخر الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وجعل الظلمات والنور أي: خلقهما.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم الذين كفروا بربهم يعدلون أي: يعدلون به غيره; أي: يسوونه به، [ ص: 552 ] والمراد بـ (الذين كفروا) ههنا: عبدة الأوثان، عن الحسن، وقتادة، وغيرهما، وقال ابن أبزى: المراد بها: جميع الكفار.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المراد بها: الثنائية القائلون: بالنور والظلمة، وبأن ما كان في المخلوقات من خير; فهو من النور، وما كان فيها من شر; فهو من الظلمة.

                                                                                                                                                                                                                                      هو الذي خلقكم من طين يعني: آدم عليه السلام، عن الحسن، وقتادة، وغيرهما، وقيل: المعنى: أن أصل النطفة طين.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قضى أجلا : ليست (ثم) لترتيب زمان بعد زمان; لأن الله عز وجل قضى الآجال قبل خلق السماوات والأرض [وإنما هي لإتيان خبر بعد خبر; [ ص: 553 ] والمعنى: أخبركم أن الله خلق السماوات والأرض]، وجعل الظلمات والنور، وخلق آدم من طين، ثم أخبركم أنه قضى أجلا، ومثله قول الشاعر: [من الخفيف]


                                                                                                                                                                                                                                      قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد بعد ذلك جده



                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس، ومجاهد: معنى الآية: وقضى أجلا لانقضاء الدنيا، وأجل مسمى عنده : لابتداء الآخرة.

                                                                                                                                                                                                                                      قتادة والضحاك: أجل الحياة إلى الموت، وأجل الموت إلى البعث.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: الأجل الأول: قبض الروح في النوم، والثاني: قبض الروح عند الموت، عن ابن عباس أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: الأول: ما أعلمناه من أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني: يوم القيامة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: الأول: ما نعرفه من الأهلة ونحوها، والثاني: موت الإنسان الذي انفرد الله تعالى بعلمه.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أنتم تمترون أي: تشكون.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو الله في السماوات وفي الأرض الآية: قيل: المعنى: وهو الإله المعبود فيهما، وقيل: هو خبر بعد خبر; كأنه قال: وهو الله في السماوات، وهو الله في الأرض.

                                                                                                                                                                                                                                      الزجاج: (في): متعلقة بما دل عليه اسم الله عز وجل; والمعنى: وهو [ ص: 554 ] الخالق العالم بما يصلح به أمر السماء والأرض، المنفرد بالتدبير فيهما، كما يقال: «أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب». وقيل: هو على تقدير الحذف; والمعنى: وهو الله مدبر في السماوات وفي الأرض.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن (في) متعلقة بـ (يعلم) على أحد وجهين: إما أن تكون تمام الكلام: وهو الله في السماوات ، ثم ابتداء: وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ، وإما أن يكون التمام على قوله: (وهو الله)، ثم ابتداء: في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ، فـ (يعلم) يراد به التقديم في الوجهين; ومعنى ذلك: أنه معبود ومدبر في كل مكان، ويجوز الوقف على (في السماوات) أيضا، إذا قدرته خبرا بعد خبر.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يجوز أن تتأول الآية على معنى الحلول وشغل الأمكنة; لاستحالة وصف الباري سبحانه بذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وما تأتيهم من آية من آيات ربهم : (من) الأولى: لاستغراق الجنس، والثانية: للتبعيض.

                                                                                                                                                                                                                                      فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون : قيل: يعني به: ما نالهم يوم بدر ونحوه، وقيل: يوم القيامة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 555 ] وقوله: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن : قيل: إن (القرن) ستون عاما، وقيل: سبعون، وقيل: ثمانون، وقيل: مئة، والتقدير: من أهل قرن، وقيل: (القرن): كل عالم في عصر، مأخوذ من الاقتران; أي: عالم مقترن بعضه إلى بعض، فلا يحتاج على هذا إلى تقدير حذف.

                                                                                                                                                                                                                                      مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم : خروج من الغيبة إلى الخطاب; لأنهم دخل معهم غيرهم من الحاضرين في ذلك الزمان، ولو جاء على ما تقدم من الغيبة; لقال: ما لم نمكن لهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وأرسلنا السماء عليهم مدرارا : مدرارا: بناء دال على التكثير; كـ (مذكار)، و (ومئناث) في المرأة التي كثرت ولادتها الذكور أو الإناث، والمعنى: تدر عليهم المطر.

                                                                                                                                                                                                                                      ولو نـزلنا عليك كتابا في قرطاس الآية: (القرطاس): الصحيفة، عن ابن عباس، وغيره، وذكر معه (الكتاب); لأن (الكتاب) مصدر بمعنى: الكتابة، فهي تكون في القرطاس، وهذا جواب لقولهم: حتى تنـزل علينا كتابا نقرؤه [الإسراء: 93]، فأعلم الله تعالى بما سبق في علمه من أنه لو نزل لكذبوا به.

                                                                                                                                                                                                                                      وقالوا لولا أنـزل عليه ملك أي: في صورته يرونه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 556 ] ولو أنـزلنا ملكا لقضي الأمر أي: لأهلكوا بعذاب الاستئصال، عن الحسن، وقتادة، وغيرهما.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس: لو رأوا الملك على صورته; لماتوا.

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد، وعكرمة: معنى، (لقضي الأمر): لقامت القيامة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا أي: في صورة رجل، كما جرت عادة الأنبياء; لأن البشر لا يقدرون على النظر إلى الملك على صورته.

                                                                                                                                                                                                                                      وللبسنا عليهم ما يلبسون أي: وللبسنا عليهم كما يلبسون على أنفسهم.

                                                                                                                                                                                                                                      الزجاج: وللبسنا عليهم كما يلبسون على ضعفتهم، وأصل ذلك: من التغطية والتستر بالثوب ونحوه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فحاق بالذين سخروا منهم أي: من الأنبياء.

                                                                                                                                                                                                                                      ما كانوا به يستهزئون يعني: العذاب الذي كانوا يستهزئون به إذا أوعدتهم به الأنبياء، وقيل: المعنى: جزاء استهزائهم.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 557 ] ومصدر (حاق): حيقا، وحيوقا، وحيقانا; وهو حلول المكروه بالإنسان.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: أصله: حق بهم، فقلبت القاف المدغمة، كما قلبت في (تسريت)، وشبهه.

                                                                                                                                                                                                                                      قل سيروا في الأرض الآية: أمروا أن يعتبروا بآثار من خلا من الأمم.

                                                                                                                                                                                                                                      قل لمن ما في السماوات والأرض الآية: اللام في (لمن): لام الملك، ومعنى (كتب): أوجب.

                                                                                                                                                                                                                                      (قل لله) جواب لمضمر; كأنه لما قال لهم: (لمن ما في السماوات والأرض); قالوا: لمن هو؟ فقال: (لله).

                                                                                                                                                                                                                                      ليجمعنكم إلى يوم القيامة : قيل: تمام الكلام عند قوله: (الرحمة)، ويكون ما بعده تبيينا; لأن معنى (ليجمعنكم إلى يوم القيامة): ليمهلنكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى: كتب على نفسه ليجمعنكم إلى يوم القيامة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن ( إلى) بمعنى: في]، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كتب الله كتابا قبل الخلق; إن رحمتي سبقت غضبي».

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 558 ] وله ما سكن في الليل والنهار » أي: ما سكن وما تحرك، فحذف; لعلم السامع، وقيل: خص الساكن بالذكر; لأن ما يعمه السكون أكثر مما تعمه الحركة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فاطر السماوات والأرض :(الفاطر): المبتدئ الخلق، وأصل (الفطر): الشق.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو يطعم ولا يطعم أي: يرزق ولا يرزق، وخص الإطعام من دون غيره من ضروب الإنعام; لأن الحاجة إليه أشد لجميع الأنام.

                                                                                                                                                                                                                                      قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم أي: استسلم لأمر الله عز وجل.

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن: المعنى: أول من أسلم من أمته.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تكونن من المشركين : [أي: قيل لي: ولا تكونن من المشركين ].

                                                                                                                                                                                                                                      من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه أي: من يصرف الله عنه العذاب يوم القيامة; فقد أوجب له الرحمة بالثواب، والفوز، والنجاة.

                                                                                                                                                                                                                                      (المبين) بمعنى: البين.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن يمسسك الله بضر (المس): من صفات الأجسام، وهو ههنا مجاز; والمعنى: إن يحل بك ضرا.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو القاهر فوق عباده ; (القهر): القدرة على الغلبة، ومعنى (فوق عباده): أي: استعلى عليهم قهره.

                                                                                                                                                                                                                                      قل أي شيء أكبر شهادة الآية: قال الحسن: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: من يشهد [ ص: 559 ] لك؟ فنزلت الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى قل الله : أي: انفراده بالربوبية وقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأوحي إلي هذا القرآن يقول: والقرآن شاهد بنبوتي.

                                                                                                                                                                                                                                      لأنذركم به ومن بلغ أي: ومن بلغه القرآن، فحذفت الهاء لطول الكلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى: ومن بلغ الحلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: لأنذركم به أيها العرب، ومن بلغه من العجم.

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد: (من بلغ): من أسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية