الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
خاتمة

أورد بعضهم سؤالا ، وهو أنه : هل للمحكم مزية على المتشابه أو لا ؟ فإن قلتم بالثاني : فهو خلاف الإجماع ، أو بالأول : فقد نقضتم أصلكم في أن جميع كلام الله سبحانه وتعالى سواء ، وأنه منزل بالحكمة !

وأجاب أبو عبد الله البكراباذي : بأن المحكم كالمتشابه من وجه ، ويخالفه من وجه ، فيتفقان في أن الاستدلال بهما لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الواضع ، وأنه لا يختار القبيح .

ويختلفان في أن المحكم بوضع اللغة لا يحتمل إلا الوجه الواحد ; فمن سمعه أمكنه أن [ ص: 621 ] يستدل به في الحال ، والمتشابه يحتاج إلى فكرة ونظر ; ليحمله على الوجه المطابق . ولأن المحكم أصل ، والعلم بالأصل أسبق ، ولأن المحكم يعلم مفصلا ، والمتشابه لا يعلم إلا مجملا .

وقال بعضهم : إن قيل : ما الحكمة في إنزال المتشابه ممن أراد لعباده به البيان والهدى ؟ قلنا : إن كان مما يمكن علمه ، فله فوائد :

منها : الحث للعلماء على النظر الموجب للعلم بغوامضه ، والبحث عن دقائقه ، فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب .

ومنها ظهور التفاضل ، وتفاوت الدرجات ; إذ لو كان القرآن كله محكما لا يحتاج إلى تأويل ونظر لاستوت منازل الخلق ، ولم يظهر فضل العالم على غيره .

وإن كان مما لا يمكن علمه ، فله فوائد :

منها : ابتلاء العباد بالوقوف عنده والتوقف فيه ، والتفويض والتسليم والتعبد بالاشتغال به من جهة التلاوة كالمنسوخ ; وإن لم يجز العمل بما فيه وإقامة الحجة عليهم ، لأنه لما نزل بلسانهم ولغتهم - وعجزوا عن الوقوف على معناه ، مع بلاغتهم وأفهامهم - دل على أنه نزل من عند الله ، وأنه الذي أعجزهم عن الوقوف على معناه .

وقال الإمام فخر الدين : من الملحدة من طعن في القرآن ; لأجل اشتماله على المتشابهات ، وقال : إنكم تقولون : إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة ; ثم إنا نراه بحيث يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه :

فالجبري متمسك بآيات الجبر كقوله تعالى : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ الأنعام : 25 ] .

والقدري يقول : هذا مذهب الكفار ، بدليل أنه تعالى حكى ذلك عنهم في معرض الذم في قوله : وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر [ فصلت : 5 ] . وفي موضع آخر : وقالوا قلوبنا غلف [ البقرة : 88 ] .

ومنكر الرؤية متمسك بقوله تعالى : لا تدركه الأبصار [ الأنعام : 103 ] .

ومثبت الجهة متمسك بقوله تعالى : يخافون ربهم من فوقهم [ النحل : 50 ] الرحمن على العرش استوى [ طه : 5 ] .

[ ص: 622 ] والنافي متمسك بقوله تعالى : ليس كمثله شيء [ الشورى : 11 ] .

ثم يسمي كل واحد الآيات الموافقة لمذهبه محكمة ، والآيات المخالفة له متشابهة ، وإنما آل في ترجيح بعضها على البعض إلى ترجيحات خفية ووجوه ضعيفة ، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى يوم القيامة هكذا ؟ !

قال : والجواب أن العلماء ذكروا لوقوع المتشابه فيه فوائد :

منها أنه يوجب المشقة في الوصول إلى المراد ، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب .

ومنها : أنه لو كان القرآن كله محكما لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد ; وكان بصريحه مبطلا لكل ما سوى ذلك المذهب ، وذلك مما ينفر أرباب سائر المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه والانتفاع به ; فإذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه طمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مذهبه ، وينصر مقالته ، فينظر فيه جميع أرباب المذاهب ، ويجتهد في التأمل فيه صاحب كل مذهب ، وإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات ، وبهذا الطريق يتخلص المبطل من باطله ، ويتصل إلى الحق .

ومنها : أن القرآن إذا كان مشتملا على المتشابه ، افتقر إلى العلم بطريق التأويلات ، وترجيح بعضها على بعض ، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه ، ولو لم يكن الأمر كذلك لم يحتج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة ; فكان في إيراد المتشابه هذه الفوائد الكثيرة .

ومنها : أن القرآن مشتمل على دعوة الخواص والعوام ، وطبائع العوام تنفر في أكثر الأمر عن درك الحقائق ، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي ، فوقع التعطيل ; فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما توهموه وتخيلوه ; ويكون ذلك مخلوطا بما يدل على الحق الصريح ، فالقسم الأول : - وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر - يكون من المتشابهات ، والقسم الثاني : - وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر - من المحكمات .

التالي السابق


الخدمات العلمية