الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (286) قوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها : "وسعها" مفعول ثان. وقال ابن عطية: "يكلف" يتعدى إلى مفعولين، أحدهما محذوف، تقديره: عبادة أو شيئا". قال الشيخ: "إن عنى أن أصله كذا فهو صحيح، لأن قوله: "إلا وسعها" استثناء مفرغ من المفعول الثاني، وإن عنى أنه محذوف في الصناعة فليس كذلك، بل الثاني هو "وسعها" نحو: "وما أعطيت زيدا إلا درهما" و "ما ضربت إلا زيدا" هذا في الصناعة هو المفعول وإن كان أصله: ما أعطيت زيدا شيئا إلا درهما". والوسع: ما يسع الإنسان، ولا يضيق عليه، ولا يخرج منه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن أبي عبلة: "إلا وسعها" جعله فعلا ماضيا، وخرجوا هذه القراءة على أن الفعل فيها صلة لموصول محذوف تقديره: "إلا ما وسعها" [ ص: 698 ] وهذا الموصول هو المفعول الثاني كما كان "وسعها" كذلك في قراءة العامة، وهذا لا يجوز عند البصريين، بل عند الكوفيين، على أن إضمار مثل هذا الموصول ضعيف جدا إذ لا دلالة عليه، وهذا بخلاف قول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      1148 - ما الذي دأبه احتياط وحزم وهواه أطاع يستويان

                                                                                                                                                                                                                                      وقول حسان أيضا:


                                                                                                                                                                                                                                      1149 - أمن يهجو رسول الله منكم     ويمدحه وينصره سواء

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم تحقيق هذا. وهل لهذه الجملة محل من الإعراب أم لا؟ الظاهر الثاني لأنها سيقت للإخبار بذلك، وقيل: بل محلها نصب عطفا على "سمعنا" و "أطعنا" أي: وقالوا أيضا: لا يكلف الله نفسا. وقد خرجت هذه القراءة على وجه آخر: وهو أن تجعل المفعول الثاني محذوفا لفهم المعنى، وتجعل هذه الجملة الفعلية في محل نصب صفة لهذا المفعول، والتقدير: لا يكلف الله نفسا شيئا إلا وسعها. قال ابن عطية: "وفي قراءة ابن أبي عبلة تجوز لأنه مقلوب، وكان وجه اللفظ: إلا وسعته كما قال: "وسع كرسيه السماوات والأرض"" وسع كل شيء علما"، ولكن يجيء هذا من باب: "أدخلت القلنسوة في رأسي".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "لها ما كسبت" هذه الجملة لا محل لها لاستئنافها وهي كالتفسير لما قبلها; لأن عدم مؤاخذتها بكسب غيرها واحتمالها ما حصلته هي فقط من [ ص: 699 ] جملة عدم تكليفها بما لا تسعه. وهل يظهر بين اختلاف لفظي فعل الكسب معنى أم لا؟ فقال بعضهم: نعم، وفرق بأن الكسب أعم، إذ يقال: "كسب" لنفسه ولغيره، و "اكتسب" أخص; إذ لا يقال: "اكتسب لغيره" وأنشد قول الحطيئة:


                                                                                                                                                                                                                                      1150 - ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      ويقال: هو كاسب أهله، ولا يقال: مكتسب أهله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري: "فإن قلت: لم خص الخير بالكسب والشر بالاكتساب؟ قلت: في الاكتساب اعتمال، ولما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به كانت في تحصيله أعمل وآجد فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية: "وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام، كما قال تعالى: "فمهل الكافرين أمهلهم" هذا وجه، والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلف، إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة، إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى، ويتجاوز إليها فحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا لهذا المعنى". وقال بعضهم: "لا فرق، وقد [ ص: 700 ] جاء القرآن بالكسب والاكتساب في مورد واحد. قال تعالى: "كل نفس بما كسبت رهينة". وقال تعالى: "ولا تكسب كل نفس إلا عليها"، وقال تعالى: "بغير ما اكتسبوا" فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشر".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو البقاء: "وقال قوم: "لا فرق بينهما، وذكر نحوا مما تقدم. وقال آخرون: "افتعل يدل على شدة الكلفة. وفعل السيئة شديد لما يؤول إليه". وقال الواحدي: "الصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد لا فرق بينهما، قال ذو الرمة:


                                                                                                                                                                                                                                      1151 - ... ... ... ...     ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب



                                                                                                                                                                                                                                      قلت: وإنما أتى في الكسب باللام وفي الاكتساب بـ "على"; لأن اللام تقتضي الملك والخير يحب ويسر به، فجيء معه بما يقتضي الملك، ولما كان الشر يحذر وهو ثقل ووزر على صاحبه جيء معه بـ "على" المقتضية لاستعلائه عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم: "فيه إيذان أن أدنى فعل من أفعال الخير يكون للإنسان تكرما من الله على عبده حتى يصل إليه ما يفعله معه ابنه من غير علمه به، [ ص: 701 ] لأنه من كسبه في الجملة، بخلاف العقوبة فإنه لا يؤاخذ بها إلا من جد فيها واجتهد". وهذا مبني على القول بالفرق بين البناءين وهو الأظهر.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "لا تؤاخذنا" يقرأ بالهمزة وهو من الأخذ بالذنب، ويقرأ بالواو، ويحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون من الأخذ أيضا، وإنما أبدلت الهمزة واوا لفتحها وانضمام ما قبلها، وهو تخفيف قياسي، ويحتمل أن يكون من: واخذه بالواو، قاله أبو البقاء. وجاء هنا بلفظ المفاعلة وهو فعل واحد، لأن المسيء قد أمكن من نفسه وطرق السبيل إليها بفعله، فكأنه أعان من يعاقبه بذنبه، ويأخذ به على نفسه فحسنت المفاعلة. ويجوز أن يكون من باب: سافرت وعاقبت وطارقت.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبي: "ربنا ولا تحمل علينا إصرا" بتشديد الميم. قال الزمخشري: "فإن قلت: أي فرق بين هذه الشديدة والتي في "ولا تحملنا؟ قلت: هذه للمبالغة في حمل عليه، وتلك لنقل "حمله" من مفعول واحد إلى مفعولين". انتهى يعني أن التضعيف في الأول للمبالغة ولذلك لم يتعد إلا لمفعول واحد، وفي الثانية للتعدية، ولذلك تعدى إلى اثنين أولهما "نا" والثاني "ما لا طاقة لنا به".

                                                                                                                                                                                                                                      والإصر: في الأصل الثقل والشدة. وقال النابغة:


                                                                                                                                                                                                                                      1152 - يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم     والحامل الإصر عنهم بعد ما عرقوا

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 702 ] وأطلق على العهد والميثاق لثقلهما، كقوله تعالى: "وأخذتم على ذلكم إصري" أي: عهدي. "ويضع عنهم إصرهم" أي: التكاليف الشاقة ثم يطلق على كل ما يثقل، حتى يروى عن بعضهم أنه فسر الإصر هنا بشماتة الأعداء وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      1153 - أشمت بي الأعداء حين هجرتني     والموت دون شماتة الأعداء

                                                                                                                                                                                                                                      ويقال: الإصر أيضا: العطف والقرابة، يقال: "ما يأصرني عليه آصرة" أي: ما يعطفني عليه قرابة ولا رحم، وأنشد للحطيئة:


                                                                                                                                                                                                                                      1154 - عطفوا علي بغير آ     صرة فقد عظم الأواصر

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: الإصر: الأمر الذي تربط به الأشياء، ومنه "الإصار" للحبل الذي تشد به الأحمال، يقال: أصر يأصر أصرا بفتح الهمزة، فأما بكسرها فهو اسم. ويقال بضمها أيضا، وقد قرئ به شاذا:

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبي: "ولا تحمل علينا" بالتشديد مبالغة في الفعل.

                                                                                                                                                                                                                                      والطاقة: القدرة على الشيء وهي في الأصل، مصدر، جاءت على حذف الزوائد، وكان من حقها "إطاقة" لأنها من أطاق، ولكن شذت كما شذت أليفاظ نحو: أغار غارة، وأجاب جابة، قالوا: "ساء سمعا فساء [ ص: 703 ] جابة"; ولا ينقاس فلا يقال: طال طالة. ونظير أجاب جابة: "أنبتكم من الأرض نباتا" وأعطى عطاء في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1155 - ... ... ... ...     وبعد عطائك المئة الرتاعا



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: "مولانا" والمولى: مفعل من ولي يلي، وهو هنا مصدر يراد به الفاعل، فيجوز أن يكون على حذف مضاف أي: صاحب تولينا أي: نصرتنا ولذلك قال: "فانصرنا"، والمولى يجوز أن يكون اسم مكان أيضا واسم زمان.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: "فانصرنا" أتى هنا بالفاء إعلاما بالسببية; لأن الله تعالى لما كان مولاهم ومالك أمورهم وهو مدبرهم تسبب عنه أن دعوه بأن ينصرهم على أعدائهم كقولك: "أنت الجواد فتكرم علي وأنت البطل فاحم حرمك".

                                                                                                                                                                                                                                      وقد اشتملت هذه السورة على أنواع كثيرة من العلوم، تقدم التنبيه على غالبها، والذكي مستغن عن التصريح بالتلويح. [ ص: 704 ] انتهى الجزء الثاني من كتاب الدر المصون وقد اشتمل على تتمة سورة

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية