الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة [ النيابة في العبادات البدنية ]

                                                      مذهب الشافعي رضي الله عنه الأصل امتناع النيابة في العبادات البدنية إلا ما خرج بدليل ، فقال في " الأم " في باب الإطعام في الكفارة : ولو أن رجلا صام عن رجل بأمره لم يجزه الصوم عنه ، وذلك أنه لا يعمل أحد [ ص: 168 ] عن أحد عمل الأبدان ، لأن الأبدان تعبدت بعمل ، فلا يجزئ عنها أن يعمل عنها غيرها ليس الحج والعمرة بالخبر الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وبأن فيهما نفقة ، وأن الله فرضهما على من وجد إليهما السبيل ، والسبيل بالمال . ا هـ .

                                                      وأغفل الأصحاب هذا ولم يحفظوا للشافعي فيه نصا وهذا في الجواز الشرعي .

                                                      وأما العقلي : فقال ابن برهان : مذهب أصحابنا جريان النيابة في التكاليف والعبادات البدنية عقلا ، ومنعه المعتزلة وساعدهم الحنفية .

                                                      والمسألة مبنية على حرف ، وهو أن الثواب معلول الطاعة ، والعقاب معلول المعصية عندهم ، وعندنا : الثواب فضل من الله والعقاب عدل من الله ، وإنما الطاعة أمارة عليه ، وكذلك المعصية .

                                                      وذكر الآمدي نحوه وحرره الصفي الهندي ، فقال : اتفقوا على جواز دخول النيابة في المأمور به إذا كان ماليا ، وعلى وقوعه أيضا لاتفاقهم على أنه يجوز للغير صرف زكاة ماله بنفسه ، وأن يوكل فيه ، وكيف لا ، وصرف زكاة الأموال الظاهرة إلى الإمام إما واجب أو مندوب ؟ ومعلوم أنه لم يصرفها إلى الفقراء إلا بطريق النيابة .

                                                      واختلفوا في جواز دخولها فيه إذا كان بدنيا ، فذهب أصحابنا إلى الجواز والوقوع معا محتجين بأنه غير ممتنع لنفسه ، إذ لا يمتنع قول السيد لعبده : أمرتك بخياطة هذا الثوب ، فإن خطته بنفسك أو استنبت فيه أثبتك ، وإن [ ص: 169 ] تركت الأمرين عاقبتك ، واحتجوا بالنيابة في الحج ، وفيه نظر ، فإنها لا تدل على جواز النيابة في المأمور به إذا كان بدنيا محضا ، بل إنما يدل على ما هو بدني ومالي معا كالحج ، ولعل الخصم يجوز ذلك ، فلا يكون دليلا عليه كذا قال الهندي لكن الخلاف موجود فيه عند الحنفية .

                                                      فقالت طائفة منهم : إن الحج يقع عن المباشر ، وللآمر ثواب الإنفاق ، لأن النيابة لا تجزئ في العبادات البدنية إلا أن في الحج شائبة مالية من جهة الاحتياج إلى الزاد والراحلة . فمن جهة المباشرة تقع عن المأمور ، ومن جهة الإنفاق تقع عن الآمر . لكن المرجح عندهم أنه يقع عن الآمر عملا بظواهر الأحاديث .

                                                      واحتج المانع بأن القصد من إيجاب العبادة البدنية امتحان المكلف ، والنيابة تخل بذلك . وأجيب بأنه يخل به مطلقا فإن في النيابة امتحانا أيضا .

                                                      وزادها بعض المتأخرين تحقيقا ، فقال : الأفعال المستندة إلى الفاعلين لا تخلو إما أن تكون شرعية أو لغوية ، فإن كانت شرعية فلا تخلو إما أن تكون عبادة أو غيرها ، وغير العبادة لا تخلو إما أن ينظر فيها إلى جهة الفاعلية أو إلى جهة الفعل فقط من غير نظر إلى الفاعل . فمن الأول { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا } فأناط الشارع ذلك بالفاعل ، فالعبرة فيه به ، فتكون عهدة الفعل متعلقة به ولو وكيلا .

                                                      ومن الثاني : { من باع عبدا وله مال } فقصد الشارع تحصيل الفعل ، واجتمعا في قوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى [ ص: 170 ] تنكح زوجا غيره } فالتطليق المراد به تحصيل الفعل سواء كان بنفسه أو بنيابة أو بغيره كما تقرر في الفقه وهذا من الثاني . وحتى تنكح : المراد به الإسناد الحقيقي المتعلق بالفاعل .

                                                      وأما العبادات : فلا تخلو إما أن تكون وسيلة أو تقصد ، فإن كانت وسيلة فلا تخلو إما أن تكون وسيلة تبعد عن العبادة جدا أو تقرب منها جدا ، فإن كانت تبعد جدا ، كتحصيل التراب والماء في الوضوء والتيمم ، والصب عليه فالإجماع على جواز دخول النيابة فيها ، وإن كانت تقرب منها جدا ، فإما أن يعتبر فيها القصد أو لا يعتبر . فإن لم يعتبر كتوضئة الغير له أو تغسيله ، فالإجماع على جواز الدخول .

                                                      وأما القصد فلا يخلو إما أن يكون بدنيا محضا أو مترددا بينهما . فإن كان الأول امتنعت النيابة ، كالصلاة والصوم إلا في صورة واحدة ، وهي ركعتا الطواف تبعا للحج ، وكذا الصوم عن الميت على أصح القولين . وإن كان ماليا محضا كالزكاة دخلت النيابة في تفريقه ، لأنه يشبه الوسيلة ، إذ المال هو المقصود ، وإن كان مترددا بينهما كالحج جاز عند اليأس والموت على ما تقرر في الفقه .

                                                      وأما اللغويات : فإن حقيقتها عند الإطلاق مصروفة إلى ما استند إليه الفعل حيث لم يبق ما يعم المجاز ، ولا تعتبر العادة على المشهور ، لأنها لا تصلح رافعة للحقيقة لتأدية ذلك إلى النسخ ، ويمكن أن تجعل مخصصة على طريقة ، والقدر المشترك لا يصح ، لأنه إنما يكون إذا كان معنا حقيقتان دار الأمر بين أن يجعلهما مشتركين اشتراكا لفظيا ، أو يأخذ بينهما قدرا مشتركا ، فهنا يقال : القدر المشترك أولى ، وأما في حقيقة ومجاز فلا .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية