الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 183 ] ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وستمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      استهلت هذه السنة والملك الأشرف موسى بن العادل ببلاد الجزيرة مشغول فيها بإصلاح ما كان جلال الدين الخوارزمي قد أفسده من بلاده . وقد قدمت التتار في هذه السنة إلى الجزيرة وديار بكر ، فعاثوا بالفساد يمينا وشمالا ، فقتلوا ونهبوا وسبوا على عادتهم - خذلهم الله تعالى - .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها رتب إمام بمشهد أبي بكر من جامع دمشق ، وصليت فيه الصلوات الخمس .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها درس الشيخ تقي الدين بن الصلاح الشهرزوري الشافعي في المدرسة الجوانية جوار المارستان في جمادى الأولى منها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها درس الناصر ابن الحنبلي بالصاحبة بسفح قاسيون التي أنشأتها [ ص: 184 ] الخاتون ربيعة بنت أيوب أخت ست الشام .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها حبس الملك الأشرف الشيخ عليا الحريري بقلعة عزتا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها كان غلاء شديد بديار مصر وبلاد الشام وحلب والجزيرة بسبب قلة المياه السماوية والأرضية ، فكانت هذه السنة كما قال الله تعالى : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون [ البقرة : 155 ، 156 ] .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر ابن الأثير كلاما طويلا مضمونه خروج طائفة من التتار مرة أخرى من بلاد ما وراء النهر ، وكان سبب قدومهم هذه السنة أن الإسماعيلية كتبوا إليهم يخبرونهم بضعف أمر جلال الدين بن خوارزم شاه ، وأنه قد عادى جميع الملوك حوله حتى الخليفة ، وأنه قد كسره الأشرف بن العادل مرتين ، وكان جلال الدين قد ظهرت منه أفعال ناقصة تدل على قلة عقله ، وذلك أنه توفي له غلام خصي يقال له : قلج . وكان يحبه ، فوجد عليه وجدا عظيما بحيث إنه أمر الأمراء أن يمشوا في جنازته ، فمشوا فراسخ إلى تربته ، وأمر أهل البلد أن يخرجوا بحزن وتعداد عليه ، فتوانى بعضهم في ذلك ، فهم بقتلهم حتى تشفع فيهم بعض الأمراء ، ثم لم يسمح بدفن قلج ، فكان يحمل معه في محفة ، وكلما أحضر بين يديه طعام يقول : احملوا هذا إلى قلج . فقال له بعضهم : أيها الملك ، قد مات قلج . فأمر بضرب عنقه فقتل ، فكانوا بعد ذلك يقولون : قبله وهو يقبل [ ص: 185 ] الأرض ويقول : هو الآن أصلح مما كان . يعني أنه مريض وليس بميت ، فيجد الملك راحة بذلك; من قلة عقله ودينه ، قبحه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما جاءت التتار اشتغل بهم ، وأمر بدفن قلج ، وهرب من بين أيديهم ، وامتلأ قلبه خوفا منهم ، وجعل كلما سار إلى قطر لحقوه إليه ، وخربوا ما اجتازوا به من الأقاليم والبلدان ، حتى انتهوا إلى الجزيرة ، وجاوزوها إلى سنجار وماردين وآمد ، يفسدون ما قدروا عليه قتلا وأسرا ونهبا . وتمزق شمل جلال الدين ، وتفرق عنه جيشه ، فصاروا شذر مذر ، وبدلوا بالأمن خوفا ، وبالعز ذلا ، وبالاجتماع تفريقا ، فسبحان من بيده الملكوت!

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وانقطع خبر جلال الدين فلا يدرى أين سلك ولا أين ذهب . وتمكنت التتار من الناس في سائر البلاد لا يجدون من يمنعهم ولا من يردعهم ، وألقى الله تعالى الوهن والضعف في قلوب الناس منهم ، كانوا كثيرا ما يقتلون الناس ، فيقول المسلم : لا بالله ، لا بالله . فكانوا يلعبون على الخيل ، ويغنون ويحاكون الناس : لا بالله لا بالله . وهذه طامة عظمى وداهية كبرى ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحج الناس في هذه السنة من الشام ، وكان فيمن خرج الشيخ تقي الدين أبو عمرو بن الصلاح ، ثم لم يحج الناس بعد هذه السنة أيضا لكثرة الحروب والخوف من التتر والفرنج ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها تكامل بناء المدرسة التي بسوق العجم من بغداد ، المنسوبة إلى إقبال الشرابي ، وحضر الدرس بها ، وكان يوما مشهودا ، واجتمع فيه جميع المدرسين [ ص: 186 ] والمفتين ببغداد ، وعمل بصحنها قباب الحلوى ، فحمل منها إلى جميع المدارس والربط ، ورتب فيها خمسة وعشرين فقيها لهم الجوامك الدارة في كل شهر ، والطعام في كل يوم والحلوات في أوقات المواسم ، والفواكه في زمانها ، وخلع على المدرس والمعيدين والفقهاء يومئذ ، وكان وقتا حسنا ، تقبل الله تعالى منه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها سار الأشرف أبو العباس أحمد بن القاضي الفاضل في الرسلية عن الكامل محمد صاحب مصر إلى الخليفة المستنصر بالله ببغداد ، فأكرم وأعيد معظما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها دخل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين صاحب إربل إلى بغداد ، ولم يكن دخلها قط ، فتلقاه الموكب ، وشافهه الخليفة بالسلام مرتين في وقتين ، وكان ذلك شرفا له ، غبطه به سائر ملوك الآفاق ، وسألوا أن يهاجروا ليحصل لهم مثل ذلك ، فلم يمكنوا لحفظ الثغور ، ورجع إلى مملكته معظما مكرما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية