الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان من يصلح للإمامة في الجملة فهو كل عاقل مسلم ، حتى تجوز إمامة العبد ، والأعرابي ، والأعمى ، وولد الزنا والفاسق ، وهذا قول العامة ، وقال مالك : لا تجوز الصلاة خلف الفاسق و ( وجه ) قوله أن الإمامة من باب الأمانة ، والفاسق خائن ، ولهذا لا شهادة له لكون الشهادة من باب الأمانة .

                                                                                                                                ( ولنا ) ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { صلوا خلف من قال لا إله إلا الله } ، وقوله صلى الله عليه وسلم { صلوا خلف كل بر وفاجر } ، والحديث - والله أعلم - وإن ورد في الجمع والأعياد لتعلقهما بالأمراء - وأكثرهم فساق - لكنه بظاهره حجة فيما نحن فيه ، إذ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، وكذا الصحابة رضي الله عنهم كابن عمر وغيره والتابعون اقتدوا بالحجاج في صلاة الجمعة وغيرها مع أنه كان أفسق أهل زمانه ، حتى كان عمر بن عبد العزيز يقول : لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بأبي محمد لغلبناهم ، وأبو محمد كنية الحجاج .

                                                                                                                                وروي عن أبي سعيد مولى بني أسيد أنه قال : عرست فدعوت رهطا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبو ذر وحذيفة وأبو سعيد الخدري فحضرت الصلاة فقدموني فصليت بهم وأنا يومئذ عبد وفي رواية قال : فتقدم أبو ذر ليصلي بهم فقيل له : أتتقدم وأنت في بيت غيرك ؟ فقدموني فصليت بهم وأنا يومئذ عبد .

                                                                                                                                وهذا حديث معروف أورده محمد في كتاب المأذون ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم على الصلاة بالمدينة حين خرج إلى بعض الغزوات وكان أعمى ; ولأن جواز الصلاة متعلق بأداء الأركان وهؤلاء قادرون عليها ، إلا أن غيرهم أولى ; لأن مبنى الإمامة على الفضيلة ، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم غيره ولا يؤمه غيره ، وكذا كل واحد من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم في عصره ; ولأن الناس لا يرغبون في الصلاة خلف هؤلاء فتؤدي إمامتهم إلى تقليل الجماعة ، وذلك مكروه ; ولأن مبنى أداء الصلاة على العلم ، والغالب على العبد والأعرابي وولد الزنا الجهل .

                                                                                                                                أما العبد فلأنه لا يتفرغ عن خدمة مولاه ليتعلم العلم ، وقال الشافعي : إذا ساوى العبد غيره في العلم والورع كان هو وغيره سواء ، ولا تكون الصلاة خلف غيره أحب إلي ، ( واحتج ) بحديث أبي سعيد مولى بني أسيد وذا يدل على الجواز ولا كلام فيه ، وتقليل الجماعة وانتقاص [ ص: 157 ] فضيلته عن فضيلة الأحرار يوجبان الكراهة .

                                                                                                                                وكذا الغالب على الأعرابي الجهل ، قال الله تعالى : { الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله } ، والأعرابي هو البدوي ، وإنه اسم ذم ، والعربي اسم مدح .

                                                                                                                                وكذا ولد الزنا الغالب من حاله الجهل لفقده من يؤدبه ويعلمه معالم الشريعة ; ولأن الإمامة أمانة عظيمة فلا يتحملها الفاسق ; لأنه لا يؤدي الأمانة على وجهها والأعمى يوجهه غيره إلى القبلة فيصير في أمر القبلة مقتديا بغيره ، وربما يميل في خلال الصلاة عن القبلة ، ألا ترى إلى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يمتنع عن الإمامة بعد ما كف بصره ويقول : كيف أؤمكم وأنتم تعدلونني ؟ ولأنه لا يمكنه التوقي عن النجاسات فكان البصير أولى ، إلا إذا كان في الفضل لا يوازيه في مسجده غيره فحينئذ يكون أولى ، ولهذا استخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم رضي الله عنه وإمامة صاحب الهوى والبدعة مكروهة ، نص عليه أبو يوسف في الأمالي فقال : أكره أن يكون الإمام صاحب هوى وبدعة ; لأن الناس لا يرغبون في الصلاة خلفه ، وهل تجوز الصلاة خلفه ؟

                                                                                                                                قال بعض مشايخنا : إن الصلاة خلف المبتدع لا تجوز ، وذكر في المنتقى رواية عن أبي حنيفة أنه كان لا يرى الصلاة خلف المبتدع ، والصحيح أنه إن كان هوى يكفره لا تجوز ، وإن كان لا يكفره تجوز مع الكراهة ، وكذا المرأة تصلح للإمامة في الجملة ، حتى لو أمت النساء جاز ، وينبغي أن تقوم وسطهن لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أمت نسوة في صلاة العصر وقامت وسطهن وأمت أم سلمة نساء وقامت وسطهن ; ولأن مبنى حالهن على الستر وهذا أستر لها ، إلا أن جماعتهن مكروهة عندنا ، وعند الشافعي مستحبة كجماعة الرجال ، ويروى في ذلك أحاديث لكن تلك كانت في ابتداء الإسلام ثم نسخت بعد ذلك .

                                                                                                                                ولا يباح للشواب منهن الخروج إلى الجماعات ، بدليل ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى الشواب عن الخروج ; ولأن خروجهن إلى الجماعة سبب الفتنة ، والفتنة حرام ، وما أدى إلى الحرام فهو حرام .

                                                                                                                                وأما العجائز فهل يباح لهن الخروج إلى الجماعات فنذكر الكلام فيه في موضع آخر الصبي العاقل يصلح إماما في الجملة بأن يؤم الصبيان في التراويح ، وفي إمامته البالغين فيها اختلاف المشايخ على ما مر فأما المجنون والصبي الذي لا يعقل فليس من أهل الإمامة أصلا ; لأنهما ليسا من أهل الصلاة .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية