الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          قال شيخنا فيما إذا كان المدعي امرأة على زوجها : فإذا حبس لم يسقط من حقوقه عليها شيء قبل الحبس يستحقها عليها بعد الحبس ، كحبسه في دين غيرها ، فله إلزامها ملازمة بيته ولا يدخل إليه أحد بلا إذنه ، فإن خاف أن تخرج منه بلا إذنه فله أن يسكنها حيث لا يمكنها الخروج ، كما لو سافر عنها أو حبسه غيرها ، ولا يجب حبسه [ ص: 294 ] في مكان معين ، بل المقصود تعويقه عن التصرف حتى يؤدي ذلك ، فيجوز حبسه في دار ولو في دار نفسه ، بحيث لا يمكن من الخروج . ويجوز أن يحبس وترسم هي عليه إذا حصل المقصود بذلك بحيث يمنعه من الخروج ، وهذا أشبه بالسنة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الغريم بملازمة غريمه وقال له { ما فعل أسيرك } وإنما المرسم وكيل الغريم في الملازمة ، فإذا لم يكن للزوج من يحفظ امرأته غير نفسه ، وأمكن أن يحبسهما في بيت واحد ، فتمنعه هي من الخروج ، ويمنعها هو من الخروج ، فعل ذلك ، فإن له عليها حبسها في منزله ، ولها عليه حبسه في دينها ، وحقه عليها أوكد ، فإن حق نفسه في المبيت ثابت ظاهرا وباطنا ، بخلاف حبسها له فإنه بتقدير إعساره ، لا يكون حبسه مستحقا في نفس الأمر إذ حبس العاجز لا يجوز ، لقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } ولأن حبسها له عقوبة حتى يؤدي الواجب عليه ، وحبسه لها حق يثبت بموجب العقد ، وليس بعقوبة ، بل حقه عليها كحق المالك على المملوك ، ولهذا كان النكاح بمنزلة الرق والأسر للمرأة . قال عمر رضي الله عنه : النكاح رق ، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته . [ ص: 295 ] وقال زيد بن ثابت : الزوج سيد في كتاب الله وقرأ قوله { وألفيا سيدها لدى الباب } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم } والعاني : الأسير ، وإذا كان كذلك ظهر أن ما يستحقه عليها من الحبس أعظم مما تستحقه عليه ، إذ غاية الغريم أن يكون كالأسير ، ولأنه يملك مع حبسها في منزله الاستمتاع بها متى شاء ، فحبسه لها دائما يستوفي في حبسها ما يستحقه عليها ، وحبسها له عارض إلى أن يوفيها حقها . والحبس الذي يصلح لتوفية الحق مثل المالك لأمته ، بخلاف الحبس إلى أن يستوفى الحق ، فإنه من جنس حبس الحر للحر ، ولهذا لا يملك الغريم منع المحبوس من تصرف يوفي به الحق ، ولا يمنعه من حوائجه إذا احتاج الخروج من الحبس مع ملازمته له ، وليس على المحبوس أن يقبل ما يبذله له الغريم مما عليه منة فيه . ويملك الرجل منع امرأته من الخروج مطلقا إذا قام بما لها عليه ، وليس لها أن تمتنع من قبول ذلك ، وبهذا وغيره يتبين أن له أن يلزمها ويمنعها من الخروج أكثر مما لها أن تلزمه وتمنعه من الخروج من حبسه ، فإذا لم يكن له من يقوم مقامه في ذلك لم يجز أن يمنع من ملازمتها ، وهذا حرام بلا ريب . ولا ينازع أحد من أهل العلم أن حبس الرجل إذا توجه تتمكن معه امرأته من الخروج من منزله ، وإسقاط حقه عليها حرام لا يحل لأحد من ولاة [ ص: 296 ] الأمور والحكام فعل ذلك ، حرة عفيفة كانت أو فاجرة ، فإن ما يفضي إلى تمكينها من الخروج إسقاط لحقه ، وذلك لا يجوز لا سيما وذلك مظنة لمضارتها له أو فعلها للفواحش إلى أن قال : فرعاية مثل هذا من أعظم المصالح التي لا يجوز إهمالها ، قال : وهي إنما تملك ملازمته ، وملازمته تحصل بأن تكون هي وهو في مكان واحد ، ولو طلب منها الاستمتاع في الحبس فعليها أن توفيه ذلك ، لأنه حق عليها ، وإنما المقصود بالحبس أو الملازمة أن الغريم يلازمه حتى يوفيه حقه ، ولو لازمه في داره جاز ، فإن قيل : فهذا يفضي إلى أن يمطلها ولا يوفي ، فالجواب أن تعويقه عن التصرف هو الحبس ، وهو كاف في المقصود إذا لم يظهر امتناعه عن أداء الواجبات فإن ظهر أنه قادر وامتنع ظلما ، عوقب بأعظم من الحبس بضرب مرة بعد مرة حتى يؤدي ، كما نص على ذلك أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { مطل الغني ظلم } والظالم يستحق العقوبة ، فإن العقوبة تستحق على ترك واجب أو فعل محرم ، ولقوله صلى الله عليه وسلم { لي الواجد يحل عرضه وعقوبته } ومع هذا لا يسقط حقه الذي على امرأته ، بل يملك حبسها في منزله . وأما تمكين مثل هذا [ ص: 297 ] يعني الممتنع عن الوفاء ظلما من فضل الأكل والنكاح فهذا محل اجتهاد ، فإنه من نوع التعزير ، فإن رأى الحاكم أن يعزره به كان له ذلك ، إذ التعزير لا يختص بنوع معين ، وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد ولي الأمر في تنوعه وقدره إذا لم يتعد حدود الله ، ولكن المحبوسون على حقوق النساء ليسوا من هذا الضرب ، فإن لم يحصل المقصود بحبسهما جميعا إما لعجز أحدهما عن حفظ الآخر أو لشر يحدث بينهما ونحو ذلك ، وأمكن أن تسكن في موضع لا تخرج منه ، وهو ينفق عليها ، مثل أن يسكنها في رباط نساء أو بين نسوة مأمونات فعل ذلك ، ففي الجملة لا يجوز حبسها له وتذهب حيث شاءت ، باتفاق العلماء ، بل لا بد من الجمع بين الحقين ورعاية المصلحتين ، لا سيما إذا كان ذهابها مظنة للفاحشة ، فإن ذلك يصير حقا لله يجب على ولي الأمر رعايته وإن لم يطلبه الزوج .

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          الخدمات العلمية