الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون

هذا جواب عن قولهم : ربنا أبصرنا وسمعنا الذي هو إقرار بصدق ما كانوا يكذبون به ، المؤذن به قولهم : ربنا أبصرنا وسمعنا . فالفاء لتفريع جواب [ ص: 225 ] عن إقرارهم إلزاما لهم بموجب إقرارهم ، أي فيتفرع على اعترافكم بحقية ما كان الرسول يدعوكم إليه أن يلحقكم عذاب النار .

ومجيء التفريع من المتكلم على ما هو من كلام المخاطب فيه إلزام بالحجة كالفاءات في قوله تعالى : قال فاخرج منها فإنك رجيم وقوله قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين وقوله فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ; فهذه خمس فاءات كل فاء منها هي تفريع من المتكلم بها على كلام غيره . وقد تقدم ذلك في العطف بالواو عند قوله تعالى قال : " ومن ذريتي " في سورة البقرة .

واستعمال الذوق بمعنى مطلق الإحساس مجاز مرسل تقدم عند قوله تعالى : ليذوق وبال أمره في سورة العقود .

ومفعول ذوقوا محذوف دل عليه السياق ، أي فذوقوا ما أنتم فيه مما دعاكم إلى أن تسألوا الرجوع إلى الدنيا .

والنسيان الأول : الإهمال والإضاعة ، وتقدم في قوله تعالى : " فنسي " في سورة طه .

والباء للسببية ، أي بسبب إهمالكم الاستعداد لهذا اليوم . والنسيان في قوله " نسيناكم " مستعمل في الحرمان من الكرامة مع المشاكلة .

واللقاء : حقيقته العثور على ذات ، فمنه لقاء الرجل غيره وتجيء منه الملاقاة ، ومنه : لقاء المرء ضالة أو نحوها . وقد جاء منه : شيء لقى ، أي مطروح . ولقاء اليوم في هذه الآية مجاز في حلول اليوم ووجوده على غير ترقب كأنه عثر عليه .

وإضافة يوم إلى ضمير المخاطبين تهكم بهم لأنهم كانوا ينكرونه فلما تحققوه جعل كأنه أشد اختصاصا بهم على طريقة الاستعارة التهكمية لأن اليوم إذا أضيف إلى القوم أو الجماعة إذا كان يوم انتصار لهم على عدوهم قال السموأل :


وأيامنا مشهورة في عدونا لها غرر معلومة وحجول

[ ص: 226 ] ويقولون : أيام بني فلان على بني فلان ، أي أيام انتصارهم . وسبب ذلك أن تقدير الإضافة على معنى اللام وهي تفيد الاختصاص المنتزع من الملك ، قال عمرو بن كلثوم :


وأيام لنا غر طوال

وقال تعالى : ذلك اليوم الحق ، أي يوم نصر المؤمنين على المشركين في الآخرة نصرا مؤبدا ، أي ليس كأيامكم في الدنيا التي هي أيام نصر زائل .

والإشارة بـ " هذا " إلى اليوم تهويلا له .

وجملة " إنا نسيناكم " مستأنفة استئنافا بيانيا لأن المجرمين إذا سمعوا ما علموا منه أنهم ملاقو العذاب من قوله : فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا تطلعوا إلى معرفة مدى هذا العذاب المذوق وهل لهم منه مخلص وهل يجابون إلى ما سألوا من الرجعة إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم من التصديق ، فأعلموا بأن الله ممهل شأنهم ، أي لا يستجيب لهم وهو كناية عن تركهم فيما أذيقوه . وقد تقدم في سورة طه قوله : قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى فشبه بالنسيان إظهارا للعدل في الجزاء وأنه من جنس العمل المجازى عنه .

وقد حقق هذا الخبر بمؤكدات وهي حرف التوكيد ، وإخراج الكلام في صيغة الماضي على خلاف مقتضى الظاهر من زمن الحال لإفادة تحقق الفعل حتى كأنه مضى ووقع .

وقوله وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون عطف على فذوقوا بما نسيتم ، وهو وإن أفاد تأكيد تسليط العذاب عليهم فإن عطفه مراعى فيه ما بين الجملتين من المغايرة بالمتعلقات والقيود مغايرة اقتضت أن تعتبر الجملة الثانية مفيدة فائدة أخرى ; فالجملة الأولى تضمنت أن من سبب استحقاقهم تلك الإذاقة إهمالهم التدبر في حلول هذا اليوم ، والجملة الثانية تضمنت أن ذلك العذاب مستمر وأن سبب استمرار العذاب وعدم تخفيفه أعمالهم الخاطئة وهي أعم من نسيانهم لقاء يومهم ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية