الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال صاحب " المنازل " :

التوكل : : كلة الأمر إلى مالكه ، والتعويل على وكالته ، وهو من أصعب منازل العامة عليهم . وأوهى السبل عند الخاصة ؛ لأن الحق تعالى قد وكل الأمور كلها إلى نفسه . وأيأس العالم من ملك شيء منها .

قوله : كلة الأمر إلى مالكه . أي تسليمه إلى من هو بيده .

والتعويل على وكالته ؛ أي الاعتماد على قيامه بالأمر ، والاستغناء بفعله عن فعلك ، وبإرادته عن إرادتك .

والوكالة يراد بها أمران . أحدهما : التوكيل . وهو الاستنابة والتفويض . والثاني : التوكل . وهو التعرف بطريق النيابة عن الموكل . وهذا من الجانبين . فإن الله تبارك وتعالى يوكل العبد ويقيمه في حفظ ما وكله فيه . والعبد يوكل الرب ويعتمد عليه .

[ ص: 126 ] فأما وكالة الرب عبده ، ففي قوله تعالى : ( فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ) قال قتادة : وكلنا بها الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرناهم - يعني قبل هذه الآية - وقال أبو رجاء العطاردي : معناه : إن يكفر بها أهل الأرض ، فقد وكلنا بها أهل السماء وهم الملائكة . وقال ابن عباس و مجاهد : هم الأنصار أهل المدينة .

والصواب : أن المراد من قام بها إيمانا ، ودعوة وجهادا ونصرة . فهؤلاء هم الذين وكلهم الله بها .

فإن قلت : فهل يصح أن يقال : إن أحدا وكيل الله ؟

قلت : لا . فإن الوكيل من يتصرف عن موكله بطريق النيابة . والله عز وجل لا نائب له ، ولا يخلفه أحد ، بل هو الذي يخلف عبده ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل . على أنه لا يمتنع أن يطلق ذلك باعتبار أنه مأمور بحفظ ما وكله فيه ، ورعايته والقيام به .

وأما توكيل العبد ربه فهو تفويضه إليه ، وعزل نفسه عن التصرف ، وإثباته لأهله ووليه . ولهذا قيل في التوكل : إنه عزل النفس عن الربوبية ، وقيامها بالعبودية . وهذا معنى كون الرب وكيل عبده ؛ أي كافيه ، والقائم بأموره ومصالحه ؛ لأنه نائبه في التصرف . فوكالة الرب عبده أمر وتعبد وإحسان له ، وخلعة منه عليه ، لا عن حاجة منه ، وافتقار إليه كموالاته . وأما توكيل العبد ربه فتسليم لربوبيته ، وقيام بعبوديته .

وقوله : وهو من أصعب منازل العامة عليهم ؛ لأن العامة لم يخرجوا عن نفوسهم ومألوفاتهم . ولم يشاهدوا الحقيقة التي شهدها الخاصة . وهي التي تشهد التوكيل ، فهم في رق الأسباب . فيصعب عليهم الخروج عنها ، وخلو القلب منها ، والاشتغال بملاحظة المسبب وحده .

[ ص: 127 ] وأما كونه أوهى السبل عند الخاصة فليس على إطلاقه ، بل هو من أجل السبل عندهم وأفضلها ، وأعظمها قدرا . وقد تقدم في صدر الباب أمر الله رسوله بذلك ، وحضه عليه هو والمؤمنين . ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم المتوكل وتوكله أعظم توكل . وقد قال الله له : ( فتوكل على الله إنك على الحق المبين ) وفي ذكر أمره بالتوكل ، مع إخباره بأنه على الحق دلالة على أن الدين بمجموعه في هذين الأمرين أن يكون العبد على الحق في قوله وعمله ، واعتقاده ونيته ، وأن يكون متوكلا على الله واثقا به . فالدين كله في هذين المقامين . وقال رسل الله وأنبياؤه : ( وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ) . فالعبد آفته إما من عدم الهداية ، وإما من عدم التوكل . فإذا جمع التوكل إلى الهداية فقد جمع الإيمان كله .

نعم ، التوكل على الله في معلوم الرزق المضمون ، والاشتغال به عن التوكل في نصرة الحق والدين من أوهى منازل الخاصة . أما التوكل عليه في حصول ما يحبه ويرضاه فيه وفي الخلق ، فهذا توكل الرسل والأنبياء عليهم السلام . فكيف يكون من أوهى منازل الخاصة ؟

قوله : لأن الحق قد وكل الأمور إلى نفسه ، وأيأس العالم من ملك شيء منها .

جوابه : أن الذي تولى ذلك أسند إلى عباده كسبا وفعلا وإقدارا ، واختيارا ، وأمرا ونهيا ، استعبدهم به ، وامتحن به من يطيعه ممن يعصيه ، ومن يؤثره ممن يؤثر عليه . وأمر بتوكلهم عليه فيما أسنده إليهم وأمرهم به ، وتعبدهم به . وأخبر أنه يحب المتوكلين عليه ، كما يحب الشاكرين . وكما يحب المحسنين ، وكما يحب الصابرين . وكما يحب التوابين .

وأخبر أن كفايته لهم مقرونة بتوكلهم عليه ، وأنه كاف من توكل عليه وحسبه . وجعل لكل عمل من أعمال البر ، ومقام من مقاماته جزاء معلوما .

وجعل نفسه جزاء المتوكل عليه وكفايته . فقال : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ) ، ( ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ) ، ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ) [ ص: 128 ] ، ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ) - الآية ، ثم قال في التوكل : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) .

فانظر إلى هذا الجزاء الذي حصل للمتوكل ، ولم يجعله لغيره . وهذا يدل على أن التوكل أقوى السبل عنده وأحبها إليه . وليس كونه وكل الأمور إلى نفسه بمناف لتوكل العبد عليه ، بل هذا تحقيق كون الأمور كلها موكولة إلى نفسه ؛ لأن العبد إذا علم ذلك وتحققه معرفة صارت حاله التوكل - قطعا - على من هذا شأنه ، لعلمه بأن الأمور كلها موكولة إليه ، وأن العبد لا يملك شيئا منها . فهو لا يجد بدا من اعتماده عليه . وتفويضه إليه . وثقته به من الوجهين : من جهة فقره ، وعدم ملكه شيئا ألبتة . ومن جهة كون الأمر كله بيده وإليه . والتوكل ينشأ من هذين العلمين .

فإن قيل : فإذا كان الأمر كله لله ، وليس للعبد من الأمر شيء . فكيف يوكل المالك على ملكه ؟ وكيف يستنيبه فيما هو ملك له ، دون هذا الموكل ؟ فالخاصة لما تحققوا هذا نزلوا عن مقام التوكل وسلموه إلى العامة . وبقي الخطاب بالتوكل لهم دون الخاصة .

قيل : لما كان الأمر كله لله عز وجل ، وليس للعبد فيه شيء ألبتة . كان توكله على الله تسليم الأمر إلى من هو له ، وعزل نفسه عن منازعات مالكه واعتماده عليه فيه ، وخروجه عن تصرفه بنفسه وحوله وقوته وكونه به ، إلى تصرفه بربه وكونه به سبحانه دون نفسه . وهذا مقصود التوكل .

وأما عزل العبد نفسه عن مقام التوكل : فهو عزل لها عن حقيقة العبودية .

وأما توجه الخطاب به إلى العامة : فسبحان الله ! هل خاطب الله بالتوكل في كتابه إلا خواص خلقه ، وأقربهم إليه ، وأكرمهم عليه ؟ وشرط في إيمانهم أن يكونوا متوكلين ، والمعلق على الشرط يعدم عند عدمه .

وهذا يدل على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل . فمن لا توكل له لا إيمان له ، قال الله تعالى : ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) . وقال تعالى : ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . وقال تعالى : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ) . [ ص: 129 ] وهذا يدل على انحصار المؤمنين فيمن كان بهذه الصفة .

وأخبر تعالى عن رسله بأن التوكل ملجأهم ومعاذهم . وأمر به رسوله في أربعة مواضع من كتابه . وقال : ( وقال موسى ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ) . فكيف يكون من أوهى السبل وهذا شأنه ؟ والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية