الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله : ( والاستطاعة التي يجب بها الفعل ، من نحو التوفيق الذي لا يوصف المخلوق به - [ تكون ] مع الفعل . وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع ، والتمكين وسلامة الآلات - فهي قبل الفعل ، وبها يتعلق الخطاب ، وهو كما قال تعالى " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] .

ش : الاستطاعة والطاقة والقدرة والوسع ، ألفاظ متقاربة . وتنقسم الاستطاعة إلى قسمين ، كما ذكره الشيخ رحمه الله ، وهو قول عامة أهل السنة ، وهو الوسط . وقالت القدرية والمعتزلة : لا تكون القدرة إلا قبل الفعل . وقابلهم طائفة من أهل السنة [ فقالوا لا تكون إلا مع الفعل .

والذي قاله عامة أهل السنة : أن للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي ، وهذه قد تكون قبله ، لا يجب أن تكون معه ، والقدرة التي بها الفعل لا بد أن تكون مع الفعل ، لا يجوز أن يوجد الفعل بقدرة معدومة .

وأما القدرة التي من جهة الصحة والوسع ، والتمكن وسلامة الآلات - فقد تتقدم الأفعال . وهذه القدرة المذكورة في قوله تعالى : [ ص: 634 ] ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ آل عمران : 97 ] . فأوجب الحج على المستطيع ، فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحج قد وجب إلا على من حج ، ولم يعاقب أحد على ترك الحج ! وهذا خلاف المعلوم بالضرورة من دين الإسلام .

وكذلك قوله تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [ التغابن : 16 ] . فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة ، فلو كان من لم يتق الله لم يستطع التقوى ، لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى ، ولم يعاقب من لم يتق ! وهذا معلوم الفساد .

وكذا قوله تعالى : فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا [ المجادلة : 4 ] . والمراد منه استطاعة الأسباب والآلات .

وكذا ما حكاه سبحانه من قول المنافقين : لو استطعنا لخرجنا معكم [ التوبة : 43 ] . وكذبهم في ذلك القول ، ولو كانوا أرادوا الاستطاعة التي هي حقيقة قدرة الفعل - ما كانوا بنفيهم عن أنفسهم كاذبين ، وحيث كذبهم دل أنهم أرادوا بذلك المرض أو فقد المال ، على ما بين تعالى بقوله : ليس على الضعفاء ولا على المرضى [ التوبة : 91 ] إلى أن قال : إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء [ التوبة : 93 ] . وكذلك قوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات [ النساء : 25 ] . والمراد : استطاعة [ ص: 635 ] الآلات والأسباب . ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب . وإنما نفى استطاعة الفعل معها .

وأما دليل ثبوت الاستطاعة التي هي حقيقة القدرة ، فقد ذكروا فيها قوله تعالى : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ هود : 20 ] . والمراد نفي حقيقة القدرة ، لا نفي الأسباب والآلات ، لأنها كانت ثابتة . وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله : ولا يطيقون إلا ما كلفهم ، إن شاء الله تعالى . وكذا قول صاحب موسى : إنك لن تستطيع معي صبرا [ الكهف : 67 ] . وقوله : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا [ الكهف : 72 ] . والمراد منه حقيقة قدرة الصبر ، لا أسباب الصبر وآلاته ، فإن تلك كانت ثابتة له ، ألا ترى أنه عاتبه على ذلك ؟ ولا يلام من عدم آلات الفعل وأسبابه على عدم الفعل ، وإنما يلام من امتنع منه الفعل لتضييعه قدرة الفعل ، لاشتغاله بغير ما أمر به ، أو شغله إياها بضد ما أمر به . ومن قال : إن القدرة لا تكون إلا حين الفعل - يقولون : إن القدرة لا تصلح للضدين ، فإن القدرة المقارنة للفعل لا تصلح إلا لذلك الفعل ، وهي مستلزمة له ، لا توجد بدونه .

[ ص: 636 ] وما قالته القدرية - بناء على أصلهم الفاسد ، وهو إقدار الله للمؤمن والكافر والبر والفاجر سواء ، فلا يقولون إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصل بها الإيمان ، بل هذا بنفسه رجح الطاعة ، وهذا بنفسه رجح المعصية ! كالوالد الذي أعطى كل واحد من بنيه سيفا ، فهذا جاهد به في سبيل الله ، وهذا قطع به الطريق .

وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر ، فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع نعمة دينية ، خصه بها دون الكافر ، وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر . كما قال تعالى : ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون [ الحجرات : 7 ] فالقدرية يقولون : إن هذا التحبيب والتزيين عام في كل الخلق ، وهو بمعنى البيان وإظهار دلائل الحق . والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمن ، ولهذا قال : أولئك هم الراشدون [ الحجرات : 7 ] . والكفار ليسوا راشدين . وقال تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون [ الأنعام : 125 ] . وأمثال هذه الآية في القرآن كثير ، يبين أنه سبحانه هدى هذا وأضل هذا . قال تعالى : من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا [ الكهف : 17 ] . وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان ، إن شاء الله تعالى .

وأيضا فقول القائل : يرجح بلا مرجح - إن كان لقوله : " يرجح " [ ص: 637 ] معنى زائد على الفعل ، فذاك هو السبب المرجح ، وإن لم يكن له معنى زائد كان حال الفاعل قبل وجود الفعل كحاله عند الفعل ، ثم الفعل حصل في إحدى الحالتين دون الأخرى بلا مرجح ! وهذا مكابرة للعقل ! ! فلما كان أصل قول القدرية إن فاعل الطاعات وتاركها كلاهما في الإعانة والإقدار سواء - امتنع على أصلهم أن يكون مع الفعل قدرة تخصه ، لأن القدرة التي تخص الفعل لا تكون للتارك ، وإنما تكون للفاعل ، ولا تكون القدرة إلا من الله تعالى . وهم لما رأوا أن القدرة لا بد أن تكون قبل الفعل ، قالوا : لا تكون مع الفعل ، لأن القدرة هي التي يكون بها الفعل والترك ، وحال وجود الفعل يمتنع الترك ، فلهذا قالوا : القدرة لا تكون إلا قبل الفعل ! وهذا باطل مطلقا ، فإن وجود الأمر مع عدم بعض شروطه الوجودية ممتنع ، بل لا بد أن يكون جميع ما يتوقف عليه الفعل من الأمور الوجودية موجودا عند الفعل . فنقيض قولهم حق ، وهو : أن الفعل لا بد أن يكون معه قدرة .

لكن صار أهل الإثبات هنا حزبين : حزب قالوا : لا تكون القدرة إلا معه ، ظنا منهم أن القدرة نوع واحد لا يصلح للضدين ، وظنا من بعضهم أن القدرة عرض ، فلا تبقى زمانين ، فيمتنع وجودها قبل الفعل .

والصواب : أن القدرة نوعان كما تقدم : نوع مصحح للفعل ، يمكن معه الفعل والترك ، وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي ، وهذه تحصل للمطيع والعاصي ، وتكون قبل الفعل ، وهذه تبقى إلى حين الفعل ، إما بنفسها عند من يقول ببقاء الأعراض ، وإما بتجدد أمثالها عند [ ص: 638 ] من يقول إن الأعراض لا تبقى زمانين ، وهذه قد تصلح للضدين ، وأمر الله مشروط بهذه الطاقة ، فلا يكلف الله من ليس معه هذه الطاقة ، وضد هذه العجز ، كما تقدم .

وأيضا : فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها ، فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون ما يتصور الفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه . فالشارع ييسر على عباده ، ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر ، وما جعل عليكم في الدين من حرج ، والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة المرض وتأخر برئه ، فهذا في الشرع غير مستطيع ، لأجل حصول الضرر عليه ، وإن كان قد يسمى مستطيعا . فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل ، بل ينظر إلى لوازم ذلك ، فإن كان الفعل ممكنا مع المفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية ، كالذي يقدر على الحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله ، أو يصلي قائما مع زيادة مرضه ، أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته ، ونحو ذلك . فإذا كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة ، فكيف يكلف مع العجز ؟ !

ولكن هذه الاستطاعة - مع بقائها إلى حين الفعل لا تكفي في وجود الفعل ، ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل ، بل لا بد من إحداث إعانة أخرى تقارن ، مثل جعل الفاعل مريدا ، فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة وإرادة ، والاستطاعة المقارنة تدخل فيها الإرادة الجازمة ، بخلاف المشروطة في التكليف ، فإنه لا يشترط فيها الإرادة . فالله تعالى [ ص: 639 ] يأمر بالفعل من لا يريده ، لكن لا يأمر به من لو أراده لعجز عنه . وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض ، فالإنسان يأمر عبده بما لا يريده العبد ، لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد ، وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة ، لزم وجود الفعل . وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق ، فإن من قال : القدرة لا تكون إلا مع الفعل - يقول : كل كافر وفاسق قد كلف ما لا يطيق . وما لا يطاق يفسر بشيئين : بما لا يطاق للعجز عنه ، فهذا لم يكلفه الله أحدا ، ويفسر بما لا يطاق للاشتغال بضده ، فهذا هو الذي وقع فيه التكليف ، كما في أمر العباد بعضهم بعضا ، فإنهم يفرقون بين هذا وهذا ، فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف ! ويأمره إذا كان قاعدا أن يقوم ، ويعلم الفرق بين الأمرين بالضرورة .

التالي السابق


الخدمات العلمية