الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              تنبيه آخر على خواص الأقيسة : .

              اعلم أن المؤثر من خاصيته أن يستغني عن السبر والحصر فلا يحتاج إلى نفي ما عداه ; لأنه لو ظهر في الأصل مؤثر آخر لم يطرح بل يجب التعليل بهما ، فإن الحيض والردة والعدة قد تجتمع على امرأة ويعلل تحريم الوطء بالجميع ; لأنه قد ظهر تأثير كل واحد على الانفراد بإضافة الشرع التحريم إليه .

              أما المناسب فلم يثبت إلا بشهادة المناسبة وإثبات الحكم على وفقه ، فإذا ظهرت مناسبة أخرى انمحقت الشهادة الأولى ، كما في إعطاء الفقير القريب ، فإنا لا ندري أنه أعطى للفقر أو للقرابة أو لمجموع الأمرين ، فلا يتم نظر المجتهد في التعليل بالمناسب ما لم يعتقد نفي مناسب آخر أقوى ، ولم يتوصل بالسبر إليه أما المناظر فينبغي أن يكتفى منه بإظهار المناسبة ولا يطالب بالسبر ; لأن المناسبة تحرك الظن إلا في حق من اطلع على مناسب آخر فيلزم المعترض إظهاره إن اطلع عليه ، وإلا فليعترض بطريق آخر فهذا فرق ما بين المناسب والمؤثر .

              وأما الشبه فمن خاصيته أنه يحتاج إلى نوع ضرورة في استنباط مناط الحكم ; فإن لم تكن ضرورة فقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يجوز اعتباره .

              وليس هذا بعيدا عندي في أكثر المواضع ، فإنه إذا أمكن قصر [ ص: 322 ] الحكم على المحل وكان المحل المنصوص عليه معرفا بوصف مضبوط فأي حاجة إلى طلب ضابط آخر ليس بمناسب ؟ فكان تمام النظر في الشبه بأن يقال : لا بد من علامة ولا علامة أولى من هذا فإذا هو العلامة ، كما تقول : الربا جار في الدقيق والعجين فلم ينضبط باسم البر فلا بد من ضابط ولا ضابط أولى من الطعم ، والضرب على العاقلة ورد في النفس والطرف وفارق المال فلا بد من ضابط ولا ضابط إلا أنه بدل الجناية على الآدمي ، وهذا يجري في القليل .

              والتطوع يستغني عن التبييت ، والقضاء لا يستغني ، والأداء دائر بينهما ، ولا بد من فاصل للقسمين والفرضية أولى الفواصل ، وهذا بخلاف المناسب ، فإنه يجذب الظن ويحركه ، وإن لم يكن إلى طلب العلة ضرورة .

              فإن قيل فإذا تحققت الضرورة حتى جاز أن يقال لا بد من علامة وتم السبر حتى لم تظهر علامة إلا الطرد المحض الذي لا يوهم جاز القياس به أيضا فإنه خاصية تنفي الشبه وإيهام الاشتمال على مخيل .

              قلنا : لهذا السؤال قال قائلون : لا تشترط هذه الضرورة في الشبه كما في المناسب ، فإن شرطناه فيكاد لا يبقى بين الشبه والطرد من حيث الذات فرق لكن من حيث الإضافة إلى القرب والبعد ، فإن جعلنا الطرد عبارة عما بعد عن ذات الشيء كبناء القنطرة فيقضي بادي الرأي ببطلانه ; لأنه يظهر سواه على البديهة صفات هي أحرى بتضمن حكم المصلحة فيه فيكون فساده لظهور ما هو أقرب منه لا لذاته .

              وعلى الجملة فمهما ظهر الأقرب والأخص امحق الظن الحاصل بالأبعد ، وقد يكون ظهور الأقرب بديهيا لا يحتاج إلى تأمل فيصير بطلان الأبعد بديهيا فيظن أنه لذاته ، وإنما هو لانمحاق الظن به من حيث وجد ما هو أقرب ، وقد بينا أن ضبط هذا الجنس بالضوابط الكلية عسير بل للمجتهد في كل مسألة ذوق يختص بها فلنفوض ذلك إلى رأي المجتهد ، وإنما القدر الذي قطعنا به في إبطال الطرد أن مجرد كون الحكم مع الوصف لا يحرك الظن للتعليل به ما لم يستمد من شمة إخالة أو مناسبة أو إيهام مناسبة أو سبر وحصر مع ضرورة طلب مناط ، وقد ينطوي الذهن على معنى تلك الضرورة والسبر وإن لم يشعر صاحبه بشعور نفسه به ، فإن الشعور بالشيء غير الشعور بالشعور ، فلو قدر تجرده عن هذا الشعور لم يحرك ظن عاقل أصلا .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية