الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الرابع : التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة الشرع . وهذا هو الذي دعا به النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس في قوله : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل .

وروى البخاري - رحمه الله - في كتاب الجهاد في صحيحه عن علي : هل خصكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء ؟ فقال : ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة ، أو فهم يؤتاه الرجل .

[ ص: 303 ] وعلى هذا قال بعض أهل الذوق : للقرآن نزول وتنزل ، فالنزول قد مضى ، والتنزل باق إلى قيام الساعة .

ومن هاهنا اختلف الصحابة في معنى الآية فأخذ كل واحد برأيه على منتهى نظره في المقتضى .

ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل لقوله - تعالى - : ولا تقف ما ليس لك به علم ( الإسراء : 36 ) وقوله : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ( البقرة : 169 ) وقوله : لتبين للناس ما نزل إليهم ( النحل : 44 ) فأضاف البيان إليهم .

وعليه حملوا قوله - صلى الله عليه وسلم - : من قال في القرآن بغير علم ، فليتبوأ مقعده من النار ، رواه البيهقي من طرق ، من حديث ابن عباس . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي ، وقال : غريب ، من حديث ابن جندب .

وقال البيهقي في شعب الإيمان : هذا إن صح ، فإنما أراد - والله أعلم - الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه ، فمثل هذا الذي لا يجوز الحكم به في النوازل ، وكذلك لا يجوز [ ص: 304 ] تفسير القرآن به . وأما الرأي الذي يسنده برهان فالحكم به في النوازل جائز ، وهذا معنى قول الصديق : أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي .

وقال في " المدخل " : في هذا الحديث نظر ، وإن صح فإنما أراد - والله أعلم - : فقد أخطأ الطريق ، فسبيله أن يرجع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة ، وفي معرفة ناسخه ومنسوخه ، وسبب نزوله ، وما يحتاج فيه إلى بيانه إلى أخبار الصحابة ؛ الذين شاهدوا تنزيله ، وأدوا إلينا من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يكون تبيانا لكتاب الله قال الله - تعالى - : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ( النحل : 44 ) .

فما ورد بيانه عن صاحب الشرع ، ففيه كفاية عن ذكره من بعده ، وما لم يرد عنه بيان ففيه حينئذ فكرة أهل العلم بعده ، ليستدلوا بما ورد بيانه على ما لم يرد .

قال : وقد يكون المراد به من قال فيه برأيه من غير معرفة منه بأصول العلم وفروعه ، فتكون موافقته للصواب - وإن وافقه من حيث لا يعرفه - غير محمودة .

وقال الإمام أبو الحسن الماوردي في " نكته " : قد حمل بعض المتورعة هذا الحديث على ظاهره ، وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده . ولو صحبتها الشواهد ، ولم يعارض شواهدها نص صريح ، وهذا عدول عما تعبدنا بمعرفته من النظر في القرآن واستنباط الأحكام منه ، كما قال - تعالى - : لعلمه الذين يستنبطونه منهم ( النساء : 83 ) .

ولو صح ما ذهب إليه لم يعلم شيء إلا بالاستنباط ، ولما فهم الأكثر من كتاب الله شيئا - وإن صح الحديث - فتأويله أن من تكلم في القرآن بمجرد رأيه ولم يعرج على سوى لفظه [ ص: 305 ] وأصاب الحق فقد أخطأ الطريق ، وإصابته اتفاق ، إذ الغرض أنه مجرد رأي لا شاهد له ، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : القرآن ذلول ذو وجوه محتملة ، فاحملوه على أحسن وجوهه .

وقوله : ذلول يحتمل وجهين : أحدهما أنه مطيع لحامليه ، ينطق بألسنتهم . الثاني : أنه موضح لمعانيه حتى لا تقصر عنه أفهام المجتهدين .

وقوله : " ذو وجوه " يحتمل معنيين : أحدهما أن من ألفاظه ما يحتمل وجوها من التأويل ، والثاني : أنه قد جمع وجوها من الأوامر والنواهي ، والترغيب والترهيب ، والتحليل والتحريم .

وقوله : " فاحملوه على أحسن وجوهه " يحتمل أيضا وجهين : أحدهما : الحمل على أحسن معانيه . والثاني : أحسن ما فيه من العزائم دون الرخص ، والعفو دون الانتقام ، وفيه دلالة ظاهرة على جواز الاستنباط والاجتهاد في كتاب الله .

وقال أبو الليث : النهي إنما انصرف إلى المتشابه منه ؛ لا إلى جميعه ؛ كما قال - تعالى - : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ( آل عمران : 7 ) لأن القرآن إنما نزل حجة على الخلق ، فلو لم يجز التفسير لم تكن الحجة بالغة ؛ فإذا كان كذلك جاز لمن عرف لغات العرب وشأن النزول أن يفسره ، وأما من كان من المكلفين ولم يعرف وجوه اللغة ، فلا يجوز أن يفسره إلا بمقدار ما سمع ، فيكون ذلك على وجه الحكاية لا على سبيل التفسير ، فلا بأس به ولو أنه يعلم التفسير ، فأراد أن يستخرج من الآية حكمة أو دليلا لحكم فلا بأس به . ولو قال : المراد من الآية كذا من غير أن يسمع منه شيئا فلا يحل ، وهو الذي نهى عنه . انتهى .

وقال الراغب في مقدمة " تفسيره " : اختلف الناس في تفسير القرآن : هل يجوز [ ص: 306 ] لكل ذي علم الخوض فيه ؟ فمنهم من بالغ ومنع الكلام - ولو تفنن الناظر في العلوم ، واتسع باعه في المعارف - إلا بتوقيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو عمن شاهد التنزيل من الصحابة ، أو من أخذ منهم من التابعين ، واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : من فسر القرآن برأيه فقد أخطأ . وفي رواية : من قال في القرآن برأيه فقد كفر .

وقيل : إن كان ذا معرفة وأدب فواسع له تفسيره ؛ والعقلاء والأدباء فوضى في معرفة الأغراض ، واحتجوا بقوله - تعالى - : ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ( ص : 29 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية