الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى :( إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ عاصم : " إن نعف ونعذب " بالنون وكسر الذال ، وطائفة بالنصب ، والمعنى : أنه تعالى حكى عن نفسه أنه يقول : إن يعف عن طائفة يعذب طائفة ، والباقون بالياء وضمها ، وفتح الفاء على ما لم يسم فاعله ، إن يعف عن طائفة بالتذكير ، وتعذب طائفة بالتأنيث ، وحكى صاحب الكشاف عن مجاهد : إن تعف عن طائفة على البناء للمفعول مع التأنيث ، ثم قال : والوجه التذكير ؛ لأن المسند إليه الظرف ، كما تقول : سير بالدابة ، ولا تقول : سيرت بالدابة ، وأما تأويل قراءته فهو أن مجاهدا لعله ذهب إلى أن المعنى كأنه قيل : إن [ ص: 100 ] ترحم طائفة فأنت كذلك ، وهو غريب ، والجيد القراءة العامة : إن يعف عن طائفة بالتذكير وتعذب طائفة بالتأنيث .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : ذكر المفسرون أن الطائفتين كانوا ثلاثة ، استهزأ اثنان وضحك واحد ، فالطائفة الأولى الضاحك ، والثانية الهازئان ، وقال المفسرون : لما كان ذنب الضاحك أخف لا جرم عفا الله عنه ، وذنب الهازئين أغلظ ، فلا جرم ما عفا الله عنهما ، قال القاضي : هذا بعيد ؛ لأنه تعالى حكم على الطائفتين بالكفر ، وأنه تعالى لا يعفو عن الكافر إلا بعد التوبة والرجوع إلى الإسلام ، وأيضا لا يعذب الكافر إلا بعد إصراره على الكفر ، أما لو تاب عنه ورجع إلى الإسلام فإنه لا يعذبه ، فلما ذكر الله تعالى أنه يعفو عن طائفة ويعذب الأخرى ، كان فيه إضمار أن الطائفة التي أخبر أنه يعفو عنهم تابوا عن الكفر ورجعوا إلى الإسلام ، وأن الطائفة التي أخبر أنه يعذبهم أصروا على الكفر ولم يرجعوا إلى الإسلام ، ولعل ذلك الواحد لما لم يبالغ في الطعن ولم يوافق القوم في الذكر خف كفره ، ثم إنه تعالى وفقه للإيمان والخروج عن الكفر ، وذلك يدل على أن من خاض في عمل باطل ، فليجتهد في التقليل فإنه يرجى له ببركة ذلك التقليل أن يتوب الله عليه في الكل .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قالوا : ثبت بالروايات أن الطائفتين كانوا ثلاثة ، فوجب أن تكون إحدى الطائفتين إنسانا واحدا . قال الزجاج : والطائفة في اللغة : أصلها الجماعة ؛ لأنها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ، ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة ، قال تعالى :( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) [ النور : 2 ] . وأقله الواحد ، وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : الطائفة الواحد فما فوقه . وفي جواز تسمية الشخص الواحد بالطائفة وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن من اختار مذهبا ونصره فإنه لا يزال يكون ذابا عنه ناصرا له ، فكأنه بقلبه يطوف عليه ويذب عنه من كل الجوانب ، فلا يبعد أن يسمى الواحد طائفة لهذا السبب .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال ابن الأنباري : العرب توقع لفظ الجمع على الواحد فتقول : خرج فلان إلى مكة على الجمال ، والله تعالى يقول :( الذين قال لهم الناس ) [ آل عمران : 173 ] . يعني نعيم بن مسعود .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : لا يبعد أن تكون الطائفة إذا أريد بها الواحد يكون أصلها طائفا ، ثم أدخل الهاء عليه للمبالغة ، ثم إنه تعالى علل كونه معذبا للطائفة الثانية بأنهم كانوا مجرمين .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الطائفتين لما اشتركتا في الكفر ، فقد اشتركتا في الجرم ، والتعذيب يختص بإحدى الطائفتين ، وتعليل الحكم الخاص بالعلة العامة لا يجوز ، وأيضا التعذيب حكم حاصل في الحال . وقوله :( كانوا مجرمين ) يدل على صدور الجرم عنهم في الزمان الماضي ، وتعليل الحكم الحاصل في الحال بالعلة المتقدمة لا يجوز ، بل كان الأولى أن يقال ذلك : بأنهم مجرمون .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الجواب عنه أن هذا تنبيه على أن جرم الطائفة الثانية كان أغلظ وأقوى من جرم الطائفة الأولى ، فوقع التعليل بذلك الجرم الغليظ ، وأيضا ففيه تنبيه على أن ذلك الجرم بقي واستمر ولم يزل ، فأوجب التعذيب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية