الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة

                                                      لا يجوز ترجمة القرآن بالفارسية وغيرها بل يجب قراءته على هيئته التي يتعلق بها الإعجاز لتقصير الترجمة عنه ، ولتقصير غيره من الألسن عن البيان الذي خص به دون سائر الألسنة . قال الله تعالى : { بلسان عربي مبين } هذا لو لم يكن متحدى بنظمه وأسلوبه ، وإذا لم تجز قراءته بالتفسير العربي المتحدى بنظمه فأحرى أن لا تجوز بالترجمة بلسان غيره . ومن هاهنا قال القفال في فتاويه " : عندي أنه لا يقدر أحد أن يأتي بالقرآن بالفارسية . قيل له : فإذن لا يقدر أحد أن يفسر القرآن .

                                                      قال : ليس كذلك ، لأن هنا يجوز أن يأتي ببعض مراد الله ويعجز عن البعض أما إذا أراد أن يقرأه بالفارسية فلا يمكن أن يأتي بجميع مراد الله .

                                                      وفرق غيره بين الترجمة والتفسير ، فقال : يجوز تفسير الألسن بعضها ببعضه ، لأن التفسير : عبارة عما قام في النفس من المعنى للحاجة والضرورة .

                                                      والترجمة : هي بدل اللفظة بلفظة تقوم مقامها في مفهوم المعنى للسامع المعتبر لتلك الألفاظ ، فكأن الترجمة إحالة فهم السامع على الاعتبار ، [ ص: 186 ] والتفسير تعريف السامع بما فهم المترجم ، وهذا فرق حسن ، وما أحاله القفال من ترجمة القرآن ذكره الإمام أبو الحسين أحمد بن فارس عن كتاب " فقه العربية " أيضا .

                                                      فقال : لا يقدر أحد من المترجمين على أن ينقل القرآن إلى شيء من الألسنة كما نقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية ، وترجمت التوراة ، والزبور وسائر كتب الله تعالى بالعربية ، لأن العجم لم تتسع في المجاز اتساع العرب . ألا ترى أنك لو أردت أن تنقل قوله جل وعلا : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } لم تستطع أن تأتي بهذه الألفاظ مؤدية عن المعنى الذي أودعت فيه حتى تبسط مجموعها ، وتفك منظومها ، وتظهر مستورها فتقول : إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضا ، فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطته لهم ، وآذنهم بالحرب لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على استواء . وكذلك قوله تعالى : { فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا } ا هـ .

                                                      وظهر من هذا أن الخلاف المحكي عن أبي حنيفة في جواز قراءته بالفارسية لا يتحقق لعدم إمكان تصوره على أنه قد صح عن أبي حنيفة الرجوع عن ذلك . حكاه عبد العزيز في " شرح البزدوي " . والذين لم يطلعوا على الرجوع من أصحابه قالوا : أراد به عند الضرورة والعجز عن القرآن ، فإن لم يكن كذلك امتنع ، وحكم بزندقة فاعله .

                                                      وجعل القفال فيما حكاه القاضي الحسين في " الأسرار " مأخذ الخلاف في ذلك القول بخلق القرآن ، وفيه نظر ، ورأيت في كلام بعض الأئمة المتأخرين من المغاربة أن المنع مخصوص بالتلاوة ، فأما ما ترجمته [ ص: 187 ] بالفارسية : فإن ذلك جائز للضرورة ، وينبغي أن يقتصر من ذلك على بيان الحكم المحكم منه والقريب المعنى بمقدار الضرورة إليها من التوحيد وأركان العبادات ، ولا يتعرض لما سوى ذلك ويؤمر من أراد الزيادة على ذلك بتعلم اللسان العربي .

                                                      قال : وهذا هو الذي يقتضيه الدليل ، ولذلك لم يكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر إلا بآية واحدة محكمة بمعنى واحد وهو توحيد الله تعالى والتبري من الإشراك ، لأن النقل من لسان إلى لسان قد تقصر الترجمة عنه لا سيما من العربي إلى العجمي . فإن كان معنى المترجم عنه واحدا عدم أو قل وقوع التقصير فيه بخلاف المعاني إذا كثرت لا سيما إذا اشتركت الألفاظ وتقاربت ، أو تواصلت المعاني أو تقاربت . وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لضرورة التبليغ ، أو لأن معنى تلك الآية كان عندهم مقررا في كتبهم وإن خالفوه : وإفراد هذه المسألة بكلامي هذا لا تجده في كتاب فاشكر الله على هذا المستطاب .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية