الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: ومن قتله منكم متعمدا . اختلف الناس في ذلك; فمنهم من سوى بين العمد والخطأ وهم جمهور العلماء، ومنهم من خص ذلك بالعمد على ما ذكره الله في كتابه، وهو قول طاوس وعطاء وسالم وداود، والذين مالوا إلى موجب الجمهور، وذكروا أن فائدة ذكر المتعمد يظهر في نسق التلاوة في قوله تعالى: ومن عاد فينتقم الله منه ، وذلك يختص بالعمد دون الخطأ، لأن المخطئ لا يجوز أن يلحقه الوعيد، فخصص العمد بالذكر، وإن كان الخطأ والنسيان مثله ليصح رجوع الوعيد إليه، وإذا صح مجمل التخصيص [ ص: 107 ] ساغ قياس الخطأ على العمد، والجامع بينهما أن بدل المتلف هو الجزاء، وهو مقدر بمثل الفائت، إما بقيمته من الدراهم أو الدنانير أو النعم، وأبدال المتلفات يستوي العمد والخطأ كالديات وقيم المتلفات، وغاية ما في النسيان أن يقدر عذرا، والعذر لا يسقط الجزاء المتعلق بالجنابة، الدليل عليه الحلق للأذى، إلا أن هذا لا يستقيم على أصل الشافعي ، فإنه فرق في اللبس بين العمد والنسيان، وكذلك في التطيب، ولأن الصوم يبعد جعله بدلا من العين، وقد أوجب الله تعالى الصيام فقال: أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره يدل على أنه جزاء على الفعل، ومتى وجب جزاء على الفعل اختلف المتعمد والساهي، لأن الساهي ليس يستحق ذلك، ويبعد أن يكون الصيام في حق المخطئ على ما قاله الله تعالى في حق المتعمد: ليذوق وبال أمره إلا أن الشافعي يجوز إيجاب الصوم حقا لله تعالى بطريق البدل، وقد عرف ذلك من أصله في وجوب الكفارة بقتل الآدمي.

والجملة، وجوب الجزاء على الناس بقتل الصيد مسلك على أصل أبي حنيفة، فإنه لا يرى إثبات الكفارات بالقياس، والذي نحن فيه سبيله سبيل الكفارات عنده، حتى إذا اشترك المحرمون عنده في قتل صيد، فعلى كل واحد منهم جزاء كامل، بخلاف صيد الحرم، فإنه وجب بالجناية على الإحرام، وجناية كل واحد منهم كاملة، وذلك يخرج الجزاء عن كونه بدلا، ومتى ثبت أنه جزاء على الفعل، كيف يجب على الخاطئ؟ سيما والكفارات عنده لا تثبت قياسا، ولما ورد النص في الكفارة بقتل الآدميين في الخطأ لم يجز قياس قتل العمد عليه سواء وجب القصاص في العمد أو لم يجب، مثل قتل الأب ابنه، والسيد عبده، فكيف أجازوا قياس [ ص: 108 ] الخاطئ على العامد هاهنا، وقد قال تعالى: ليذوق وبال أمره ، ولا يمكن ذلك في حالة النسيان، وتكلف الرازي فروقا بينهما، فقال: في العمد تولى الله بيان حكمه، وفي الخطأ تولى الله بيان حكمه، فلم يجز قياس منصوص على منصوص. وهذا جهل مفرط، فإن الله تعالى بين حكم العمد فيما يتعلق بالآخرة، وسكت عن ذكر الكفارة، فإن كان السكوت عن ذكر الكفارة دليلا على نفي المسكوت عنه، فهلا كان ذكر العمد دليلا على نفي الحكم في المسكوت عنه وهو الخطأ، بل أولى، فإن قوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم أبان اختصاص الجزاء بالعمد، وإن ذلك المذكور لا يتعلق بالخطأ، فإن قال: ومن قتله منكم متعمدا وجب أن يختص حكم الجزاء بالعمد ولا يشركه الخطأ. فاعلم. وذكر فرقا آخر فقال: إن العمد لم يخل من إيجاب القود الذي هو أعظم من الكفارة، ومتى أخلينا قاتل الصيد خطأ من إيجاب الجزاء أهدرنا، وذلك بعيد، وإبطال لحرمة الصيد.

فيقال: إن القصاص الواجب للآدمي لا يسد مسد الكفارة، وقد يجب القصاص، ولا كفارة مثل قتل الأب ابنه والسيد عبده، وقوله: إنا لو لم يوجب الجزاء في الصيد أهدرنا، إنما كان يستقيم أن لو وجب الجزاء بدلا عن الصيد، وعنده أنه ما وجب بدلا، وإنما وجب عقوبة على الفعل، ولذلك يجب على المشتركين على كل واحد كمال الجزاء، [ ص: 109 ] وهذا بين .

التالي السابق


الخدمات العلمية