الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر غزوة الخندق ، وهي غزوة الأحزاب

وكانت في شوال ، وكان سببها أن نفرا من يهود من بني النضير ، منهم : عبد الله بن سلام بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وغيرهم ، حزبوا الأحزاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : نكون معكم حتى نستأصله ، فأجابوهم إلى ذلك ، ثم أتوا على غطفان ، فدعوهم إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبروهم أن قريشا معهم على ذلك ، فأجابوهم ، فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة ، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في مرة ، ومسعر بن رخيلة الأشجعي في الأشجع .

فلما سمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بحفر الخندق ، وأشار به سلمان الفارسي ، وكان أول مشهد شهده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يومئذ حر ، فعمل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغبة في الأجر ، وحثا للمسلمين ، وتسلل عنه جماعة من المنافقين بغير علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله في ذلك : قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا الآية .

وكان الرجل من المسلمين إذا نابته نائبة لحاجة لابد منها يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقضي حاجته ثم يعود ، فأنزل الله - تعالى : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله الآية .

وقسم الخندق بين المسلمين ، فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان ، كل يدعيه أنه منهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : سلمان منا ، سلمان من أهل البيت . وجعل لكل عشرة أربعين ذراعا ، فكان سلمان ، وحذيفة ، والنعمان بن مقرن ، وعمرو بن عوف ، وستة [ ص: 66 ] من الأنصار - يعملون ، فخرجت عليهم صخرة كسرت المعول ، فأعلموا النبي - صلى الله عليه وسلم - فهبط إليها ومعه سلمان ، فأخذ المعول ، وضرب الصخرة ضربة صدعها ، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة ، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ، ثم الثانية كذلك ، ثم الثالثة كذلك ، ثم خرج وقد صدعها ، فسأله سلمان عما رأى من البرق ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الأولى ، وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها ، وأضاء لي في الثانية القصور الحمر من أرض الشام والروم ، وأخبرني أن أمتي ظاهرة عليها ، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء ، وأخبرني أن أمتي ظاهرة عليها ، فأبشروا ، فاستبشر المسلمون .

وقال المنافقون : ألا تعجبون ؟ يعدكم الباطل ، ويخبركم أنه ينظر من يثرب الحيرة ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم ، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا ، فأنزل الله : وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا .

فأقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة ، في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من كنانة وتهامة ، وأقبلت غطفان ومن تابعهم حتى نزلوا إلى جنب أحد ، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون فجعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف ، فنزل هناك ، ورفع الذراري والنساء في الآطام .

وخرج حيي بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد سيد قريظة ، وكان قد وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قومه ، فأغلق كعب حصنه ولم يأذن له ، وقال : إنك امرؤ مشئوم ، وقد عاهدت محمدا ولم أر منه إلا الوفاء . قال حيي : يا كعب ، قد جئتك بعز الدهر وببحر طام ، جئتك بقريش وقادتها وسادتها ، وغطفان بقادتها ، وقد عاهدوني أنهم لا يبرحون حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه . قال كعب : جئتني بذل الدهر ، وبجهام قد هراق ماءه يرعد ويبرق وليس فيه شيء ، ويحك يا حيي ! دعني ومحمدا . ولم يزل معه يفتله في الذروة والغارب حتى حمله على الغدر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ففعل ونكث العهد ، وعاهده حيي إن عادت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني [ ص: 67 ] ما أصابك . فعظم عند ذلك البلاء ، واشتد الخوف ، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم ، ونجم النفاق من بعض المنافقين ، وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمشركون عليه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر ، ولم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالنبل .

فلما اشتد البلاء بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المري ، قائدي غطفان ، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابا إلى ذلك ، فاستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، فقالا : يا رسول الله ، شيء تحب أن تصنعه ، أم شيء أمرك الله به ، أو شيء تصنعه لنا ؟ قال : بل لكم ، رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم . فقال سعد بن معاذ : قد كنا نحن وهم على الشرك ، ولا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا قرى أو بيعا ، فحين أكرمنا الله بالإسلام نعطيهم أموالنا ! ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم .

فترك ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

ثم إن فوارس من قريش ، منهم : عمرو بن عبد ود أحد بني عامر بن لؤي ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب ، ونوفل بن عبد الله ، وضرار بن الخطاب الفهري - خرجوا على خيولهم ، واجتازوا ببني كنانة وقالوا : تجهزوا للحرب وستعلمون من الفرسان . وكان عمرو بن عبد ود قد شهد بدرا كافرا ، وقاتل حتى كثرت الجراح فيه ، فلم يشهد أحدا وشهد الخندق معلما حتى يعرف مكانه ، وأقبل هو وأصحابه حتى وقفوا على الخندق ، ثم تيمموا مكانا ضيقا فاقتحموه ، فجالت بهم خيولهم في السبخة بين الخندق وسلع .

وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين ، فأخذوا عليهم الثغرة ، وكان عمرو قد خرج معلما ، فقال له علي : يا عمرو ، إنك عاهدت أن لا يدعوك رجل من قريش إلى خصلتين إلا أخذت إحداهما ؟ قال : أجل . قال له علي : فإني أدعوك إلى الله والإسلام . قال : لا حاجة لي بذلك . قال : فإني أدعوك إلى النزال . قال : والله ما أحب أن أقتلك . قال علي : ولكني أحب أن أقتلك . فحمي عمرو عند ذلك ، فنزل عن فرسه وعقره ، ثم أقبل على علي ، فتجاولا ، وقتله علي ، وخرجت خيلهم منهزمة ، وقتل مع عمرو رجلان ، قتل علي أحدهما ، وأصاب آخر سهم ، فمات منه بمكة . [ ص: 68 ] ورمي سعد بن معاذ بسهم قطع أكحله ، رماه حبان بن قيس بن العرقة بن عبد مناف ، من بني معيص ، من عامر بن لؤي ، والعرقة أمه ، وإنما قيل لها العرقة لطيب ريح عرقها ، وهي قلابة بنت سعد بن سهم ، وهي أم عبد مناف بن الحارث . فلما رمى سعدا قال : خذها وأنا ابن العرقة . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : عرق الله وجهك في النار ، ولم يقطع الأكحل من أحد إلا مات . فقال سعد : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها ، فإنه لا قوم أحب إلي أن أقاتلهم من قوم آذوا نبيك وكذبوه ، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا فاجعله لي شهادة ، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة . وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية .

وقيل : إن الذي رمى سعدا هو أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم ، فلما قال سعد ما قال انقطع الدم .

وكانت صفية عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في فارع ، حصن حسان بن ثابت ، وكان حسان فيه مع النساء ؛ لأنه كان جبانا ، قالت : فأتانا آت من اليهود فقلت لحسان : هذا اليهودي يطوف بنا ، ولا نأمنه أن يدل على عوراتنا ، فانزل إليه فاقتله . فقال : والله ما أنا بصاحب هذا . قالت : فأخذت عمودا ونزلت إليه فقتلته ، ثم رجعت فقلت لحسان : انزل إليه فخذ سلبه ؛ فإنني يمنعني منه أنه رجل . فقال : والله ما لي بسلبه من حاجة .

ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعي أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إني قد أسلمت ولم يعلم قومي ، فمرني بما شئت . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إنما أنت رجل واحد ، فخذل عنا ما استطعت ، فإن الحرب خدعة . فخرج حتى أتى بني قريظة ، وكان نديما لهم في الجاهلية ، فقال لهم : قد عرفتم ودي إياكم . فقالوا : لست عندنا بمتهم . قال : قد ظاهرتم قريشا وغطفان على حرب محمد ، وليسوا كأنتم ، البلد بلدكم ، به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، لا تقدرون على أن تتحولوا منه ، وإن قريشا وغطفان إن رأوا [ ص: 69 ] نهزة وغنيمة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين محمد ، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم ، فلا تقاتلوا حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم ثقة لكم حتى تناجزوا محمدا . قالوا : أشرت بالنصح .

ثم خرج حتى أتى قريشا ، فقال لأبي سفيان ومن معه : قد عرفتم ودي إياكم ، وفراقي محمدا ، وقد بلغني أن قريظة ندموا ، وقد أرسلوا إلى محمد : هل يرضيك عنا أن نأخذ من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكم ، فتضرب أعناقهم ، ثم نكون معك على من بقي منهم ؟ فأجابهم : أن نعم . فإن طلبت قريظة منكم رهنا من رجالكم ، فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا . ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : أنتم أهلي وعشيرتي . وقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم .

فلما كان ليلة السبت من شوال سنة خمس كان مما صنع الله لرسوله أن أرسل أبو سفيان ورءوس غطفان إلى قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان ، وقالوا لهم : إنا لسنا بدار مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا . فأرسلوا إليهم : إن اليوم السبت لا نعمل فيه شيئا ، ولسنا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا ثقة لنا ، فإنا نخشى أن ترجعوا إلى بلادكم ، وتتركونا والرجل ونحن ببلاده . فلما أبلغتهم الرسل هذا الكلام ، قالت قريش وغطفان : والله لقد صدق نعيم بن مسعود ، فأرسلوا إلى قريظة : إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا . فقالت قريظة عند ذلك : إن الذي ذكر نعيم بن مسعود لحق . وخذل الله بينهم ، وبعث الله عليهم ريحا في ليال شاتية شديدة البرد ، فجعلت تكفأ قدورهم ، وتطرح أبنيتهم .

فلما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - اختلاف أمرهم دعا حذيفة بن اليمان ليلا ، فقال : انطلق إليهم ، وانظر حالهم ، ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا . قال حذيفة : فذهبت فدخلت فيهم ، والريح وجنود الله تفعل فيهم ما تفعل ، لا يقر لهم قدر ولا بناء ولا نار . فقام أبو سفيان فقال : يا معشر قريش ، لينظر الرجل أمر جليسه ، قال : فأخذت بيد الرجل الذي بجانبي فقلت : من أنت ؟ قال : أنا فلان . ثم قال أبو سفيان : والله لقد هلك الخف والحافر ، وأخلفتنا قريظة ، ولقينا من هذه [ ص: 70 ] الريح ما ترون ، فارتحلوا فإني مرتحل . ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ، ثم ضربه فوثب على ثلاث قوائم ، ولولا عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلي أن لا أحدث شيئا لقتلته .

قال حذيفة : فرجعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه ، فأدخلني بين رجليه ، وطرح علي طرف المرط ، فلما سلم خبرته الخبر .

وسمعت غطفان بما فعلت قريش ، فعادوا راجعين إلى بلادهم ، فلما عادوا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : الآن نغزوهم ولا يغزوننا . فكان كذلك حتى فتح الله مكة . ‏‏‏‏‏

التالي السابق


الخدمات العلمية