الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 115 ] ( 536 )

ثم دخلت سنة ست وثلاثين وخمسمائة

ذكر انهزام السلطان سنجر من الأتراك الخطا ، وملكهم ما وراء النهر

قد ذكر أصحاب التواريخ في هذه الحادثة أقاويل نحن نذكرها جميعها للخروج من عهدتها ، فنقول :

في هذه السنة في المحرم انهزم السلطان سنجر من الترك الكفار ، وسبب ذلك أن سنجر كان قتل ابنا لخوارزم شاه أتسز بن محمد - كما ذكرناه قبل - فبعث خوارزم شاه إلى الخطا وهم بما وراء النهر ، يطمعهم في البلاد ، ويروج عليهم أمرها وتزوج إليهم ، وحثهم على قصد مملكة السلطان سنجر ، فساروا في ثلاثمائة ألف فارس ، وسار إليهم سنجر في عساكره ، فالتقوا بما وراء النهر ، واقتتلوا أشد قتال ، وانهزم سنجر في جميع عساكره ، وقتل منهم مائة ألف قتيل ، منهم أحد عشر ألفا كلهم صاحب عمامة ، وأربعة آلاف امرأة ، وأسرت زوجة السلطان سنجر ، وتم سنجر منهزما إلى ترمذ ، وسار منها إلى بلخ .

ولما انهزم سنجر قصد خوارزم شاه مدينة مرو ، فدخلها مراغمة للسلطان سنجر ، وقتل بها ، وقبض على أبي الفضل الكرماني الفقيه الحنفي وعلى جماعة من الفقهاء ، وغيرهم من أعيان البلد .

ولم يزل السلطان سنجر مسعودا إلى وقتنا هذا ، لم تنهزم له راية ، ولما تمت عليه هذه الهزيمة أرسل إلى السلطان مسعود ، وأذن له في التصرف في الري وما يجري معها على قاعدة أبيه السلطان محمد ، وأمره أن يكون مقيما فيها بعساكره بحيث إن دعت حاجة استدعاه لأجل هذه الهزيمة ، فوصل عباس صاحب الري إلى بغداد [ ص: 116 ] بعساكره ، وخدم السلطان مسعودا خدمة عظيمة ، وسار السلطان إلى الري امتثالا لأمر عمه سنجر .

وقيل : إن بلاد تركستان ، وهي كاشغر ، وبلاساغون ، وختن ، وطراز ، وغيرها مما يجاورها من بلاد ما وراء النهر كانت بيد الملوك الخانية الأتراك ، وهم مسلمون من نسل أفراسياب التركي ، إلا أنهم مختلفون .

وكان سبب إسلام جدهم الأول واسمه سبق قراخاقان أنه رأى في منامه كأن رجلا نزل من السماء فقال بالتركية ما معناه : أسلم تسلم في الدنيا والآخرة ، فأسلم في منامه ، وأصبح فأظهر إسلامه ، فلما مات قام مقامه ابنه موسى بن سبق ، ولم يزل الملك بتلك الناحية في أولاده إلى أرسلان خان محمد بن سليمان بن داود بغراخان بن إبراهيم الملقب بطمغاج خان بن إيلك الملقب بنصر أرسلان بن علي بن موسى بن سبق ، فخرج على قدرخان فانتزع الملك منه ، فقتل سنجر قدرخان كما ذكرناه سنة أربع وتسعين وأربعمائة ، وأعاد الملك إلى أرسلان خان ، وثبت قدمه . وخرج خوارج ، فاستصرخ السلطان سنجر ، فنصره وأعاده إلى ملكه أيضا .

وكان من جنده نوع من الأتراك يقال لهم القارغلية ، والأتراك الغزية الذين نهبوا خراسان على ما نذكره إن شاء الله ، وهم نوعان : نوع يقال لهم أجق ، وأميرهم طوطى بن دادبك ، ونوع يقال لهم برق ، وأميرهم قرعوت بن عبد الحميد ، فحسن الشريف الأشرف بن محمد بن أبي شجاع العلوي السمرقندي لولد أرسلان خان المعروف بنصر خان طلب الملك من أبيه وأطمعه ، فسمع محمد خان الخبر ، فقتل الابن والشريف الأشرف .

وجرت بين أرسلان خان ، وبين جنده القارغلية وحشة دعتهم إلى العصيان عليه وانتزاع الملك منه ، فعاود الاستغاثة بالسلطان سنجر ، فعبر جيحون بعساكره سنة أربع وعشرين وخمسمائة ، وكان بينهما مصاهرة ، فوصل إلى سمرقند ، وهرب القارغلية من بين يديه .

[ ص: 117 ] واتفق أن السلطان سنجر خرج إلى الصيد ، فرأى خيالة ، فقبض عليهم ، فأقروا بأن أرسلان خان وضعهم على قتله ، فعاد إلى سمرقند ، فحصر أرسلان خان بالقلعة فملكها ، وأخذه أسيرا ، وسيره إلى بلخ فمات بها ، وقيل بل غدر به سنجر ، واستضعفه ، فملك البلد منه ، فأشاع عنه ذلك .

فلما ملك سمرقند استعمل عليها بعده قلج طمغاج أبا المعالي الحسن بن علي بن عبد المؤمن المعروف بحسن تكين ، وكان من أعيان بيت الخانية ، إلا أن أرسلان خان اطرحه ، فلما ولي سمرقند لم تطل أيامه ، فمات عن قليل ، فأقام سنجر مقامه الملك محمود بن أرسلان خان محمد بن سليمان بن داود بغراخان ، وهو ابن الذي أخذ منه سنجر سمرقند ، وكان محمود هذا ابن أخت سنجر ، وكان قبل ذلك سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة قد وصل الأعور الصيني إلى حدود كاشغر في عدد كثير لا يعلمهم إلا الله ، فاستعد له صاحب كاشغر وهو الخان أحمد بن الحسن ، وجمع جنوده فخرج إليه ، والتقوا فاقتتلوا ، وانهزم الأعور الصيني ، وقتل كثير من أصحابه ، ثم إنه مات فقام مقامه كوخان الصيني .

وكوبلسان الصين لقب لأعظم ملوكهم ، وخان لقب الملوك الترك فمعناه أعظم الملوك ، وكان يلبس لبسة ملوكهم من المقنعة والخمار ، وكان مانوي المذهب .

ولما خرج من الصين إلى تركستان انضاف إليه الأتراك الخطا ، وكانوا قد خرجوا قبله من الصين ، وهم في خدمة الخانية أصحاب تركستان .

وكان أرسلان خان محمد بن سليمان يسير كل سنة عشرة آلاف خركاة ، وينزلهم على الدروب التي بينه وبين الصين ، يمنعون أحدا من الملوك أن يتطرق إلى بلاده ، وكان لهم على ذلك جرايات وإقطاعات ، فاتفق أنه وجد عليهم في بعض السنين ، فمنعهم عن نسائهم لئلا يتوالدوا ، فعظم عليهم ، ولم يعرفوا وجها يقصدونه ، وتحيروا ، فاتفق أنه اجتاز بهم قفل عظيم فيه الأموال الكثيرة والأمتعة النفسية ، فأخذوه وأحضروا التجار ، وقالوا لهم : إن كنتم تريدون أموالكم فتعرفونا بلدا كثير المرعى فسيحا ، يسعنا ومعنا أموالنا ، فاتفق رأي التجار على بلد بلاساغون فوصفوه لهم ، فأعادوا إليهم أموالهم ، وأخذوا الموكلين بهم لمنعهم عن نسائهم وكتفوهم ، وأخذوا نساءهم ، وساروا إلى بلاساغون ، وكان أرسلان خان يغزوهم ، ويكثر جهادهم فخافوه خوفا عظيما .

[ ص: 118 ] فلما طال ذلك عليهم وخرج كوخان الصيني انضافوا إليه أيضا ، فعظم شأنهم ، وتضاعف جمعهم ، وملكوا بلاد تركستان ، وكانوا إذا ملكوا المدينة لا يغيرون على أهلها شيئا ، بل يأخذون من كل بيت دينارا من أهل البلاد وغيرها من القرى ، وأما المزدرعات وغير ذلك فلأهله ، وكل من أطاعهم من الملوك شد في وسطه شبه لوح فضة ، فتلك علامة من أطاعهم .

ثم ساروا إلى بلاد ما وراء النهر ، فاستقبلهم الخاقان محمود بن محمد بن حدود خجندة في رمضان سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة ، واقتتلوا ، فانهزم الخاقان محمود بن محمد وعاد إلى سمرقند ، فعظم الخطب على أهلها ، واشتد الخوف والحزن ، وانتظروا البلاء صباحا ومساء ، وكذلك أهل بخارى وغيرها من بلاد ما وراء النهر ، وأرسل الخاقان محمود إلى السلطان سنجر يستمده وينهي إليه ما لقي المسلمون ، ويحثه على نصرتهم ، فجمع العساكر ، فاجتمع عنده ملوك خراسان : صاحب سجستان ، والغور ، وملك غزنة ، وملك مازندران ، وغيرهم ، فاجتمع له أكثر من مائة ألف فارس ، وبقي العرض ستة أشهر .

وسار سنجر إلى لقاء الترك ، فعبر إلى ما وراء النهر في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وخمسمائة ، فشكا إليه محمود بن محمد خان من الأتراك القارغلية ، فقصدهم سنجر ، فالتجأوا إلى كوخان الصيني ومن معه من الكفار ، وأقام سنجر بسمرقند ، فكتب إليه كوخان كتابا يتضمن الشفاعة في الأتراك القارغلية ، ويطلب منه أن يعفو عنهم فلم يشفعه فيهم ، وكتب إليه يدعوه إلى الإسلام ، ويتهدده إن لم يجب إليه ، ويتوعده بكثرة عساكره ، ووصفهم وبالغ في قتالهم بأنواع السلاح حتى قال : وإنهم يشقون الشعر بسهامهم ، فلم يرض هذا الكتاب وزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك فلم يصغ إليه ، وسير الكتاب ، فلما قرئ الكتاب على كوخان أمر بنتف لحية الرسول ، وأعطاه إبرة ، وكلفه شق شعرة من لحيته فلم يقدر أن يفعل ذلك ، فقال : كيف يشق غيرك شعرة بسهم وأنت عاجز عن شقها بإبرة ؟ .

واستعد كوخان للحرب ، وعنده جنود الترك والصين والخطا وغيرهم ، [ ص: 119 ] وقصد السلطان سنجر ، فالتقى العسكران ، وكانا كالبحرين العظيمين ، بموضع يقال له قطوان ، وطاف بهم كوخان حتى ألجأهم إلى واد يقال له درغم ، وكان على ميمنة سنجر الأمير قماج ، وعلى ميسرته ملك سجستان ، والأثقال وراءهم ، فاقتتلوا خامس صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة .

وكانت الأتراك القارغلية الذين هربوا من سنجر من أشد الناس قتالا ، ولم يكن ذلك اليوم من عسكر السلطان سنجر أحسن قتالا من صاحب سجستان ، فأجلت الحرب عن هزيمة المسلمين ، فقتل منهم ما لا يحصى من كثرتهم ، واشتمل وادي درغم على عشرة آلاف من القتلى والجرحى ، ومضى السلطان سنجر منهزما ، وأسر صاحب سجستان ، والأمير قماج ، وزوجة السلطان سنجر وهي ابنة أرسلان خان ، فأطلقهم الكفار ، وممن قتل الحسام عمر بن عبد العزيز بن مازة البخاري الفقيه الحنفي المشهور .

ولم يكن في الإسلام وقعة أعظم من هذه ولا أكثر ممن قتل فيها بخراسان .

واستقرت دولة الخطا والترك والكفار بما وراء النهر ، وبقي كوخان إلى رجب من سنة سبع وثلاثين وخمسمائة فمات فيه ، وكان جميلا ، حسن الصورة ، لا يلبس إلا الحرير الصيني ، له هيبة عظيمة على أصحابه ، ولم يسلط أميرا على أقطاع بل كان يعطيهم من عنده ويقول :

متى أخذوا الأقطاع ظلموا ، وكان لا يقدم أميرا على أكثر من مائة فارس حتى لا يقدر على العصيان عليه ، وكان ينهى أصحابه عن الظلم ، وينهى عن السكر ويعاقب عليه ، ولا ينهى عن الزنا ولا يقبحه .

وملك بعده ابنة له فلم تطل مدتها حتى ماتت ، فملك بعدها أمها زوجة كوخان وابنة عمه ، وبقي ما وراء النهر بيد الخطا إلى أن أخذه منهم علاء الدين محمد خوارزم شاه سنة اثنتي عشرة وستمائة ، على ما نذكره إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية