الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          21 - فصل

                          [ العبد من أهل الذمة إن أسلم ]

                          ومن أسلم سقطت عنه الجزية سواء أسلم في أثناء الحول أو بعده .

                          ولو اجتمعت عليه جزية سنين ثم أسلم سقطت كلها ، هذا قول فقهاء المدينة وفقهاء الرأي وفقهاء الحديث إلا الشافعي وأصحابه فإنه قال : إن أسلم بعد الحول لم تسقط ; لأنه دين استحقه صاحبه واستحق المطالبة به في حال الكفر فلم تسقط بالإسلام كالخراج وسائر الديون وله - فيما إذا أسلم في أثناء الحول - قولان :

                          أحدهما : أنها تسقط .

                          والثاني : أنها تؤخذ بقسطه ، والصحيح الذي لا ينبغي القول بغيره سقوطها ، وعليه تدل سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه ، وذلك من محاسن الإسلام وترغيب الكفار فيه ، وإذا كان رسول الله صلى [ ص: 177 ] الله عليه وسلم يعطي الكفار على الإسلام حتى يسلموا يتألفهم بذلك ، فكيف ينفر عن الدخول في الإسلام من أجل دينار ؟ فأين هذا من ترك الأموال للدخول في الإسلام ؟

                          قال سفيان الثوري عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس على مسلم جزية " .

                          قال أبو عبيد : تأويل هذا الحديث : لو أن رجلا أسلم في آخر السنة وقد وجبت الجزية عليه ، أن إسلامه يسقطها عنه فلا تؤخذ منه وإن كانت قد لزمته قبل ذلك ; لأن المسلم لا يؤدي الجزية ولا تكون عليه دينا [ كما لا تؤخذ منه فيما يستأنف بعد الإسلام ] ، وقد روي عن عمر وعلي وعمر بن عبد العزيز ما يحقق هذا المعنى .

                          حدثنا عبد الرحمن عن حماد بن سلمة عن عبيد الله بن رواحة قال : كنت مع مسروق بالسلسلة فحدثني أن رجلا من الشعوب - يعني الأعاجم - أسلم وكانت تؤخذ منه الجزية ، فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين أسلمت والجزية تؤخذ مني ، فقال : لعلك أسلمت متعوذا ؟ فقال أما في الإسلام ما يعيذني ؟ قال : فكتب أن لا تؤخذ منه [ ص: 178 ] الجزية .

                          وحدثنا هشيم قال : أخبرنا سيار عن الزبير بن عدي قال : أسلم دهقان على عهد علي رضي الله عنه فقال له علي رضي الله عنه : إن أقمت في أرضك رفعنا عنك جزية رأسك وأخذناها من أرضك ، وإن تحولت عنها فنحن أحق بها .

                          وحدثنا يزيد بن هارون عن المسعودي عن محمد بن عبيد الله الثقفي أن دهقانا أسلم فقام إلى علي فقال له علي : أما أنت فلا جزية عليك ، وأما أرضك فلنا .

                          [ ص: 179 ] وحدثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن حميد قال : كتب عمر بن عبد العزيز : من شهد شهادتنا واستقبل قبلتنا واختتن فلا تأخذوا منه جزية .

                          قال أبو عبيد : أفلا ترى أن هذه الأحاديث قد تتابعت عن أئمة الهدى بإسقاط الجزية عمن أسلم ، ولم ينظروا في أول السنة كان ذلك ولا في آخرها ، فهو عندنا على أن الإسلام أهدر ما كان قبله منها ، وإنما احتاج الناس إلى هذه الآثار في زمن بني أمية لأنه يروى عنهم أو عن بعضهم ، أنهم كانوا يأخذونها منهم وقد أسلموا يذهبون إلى أن الجزية بمنزلة الضرائب على العبيد ، يقولون : لا يسقط إسلام العبد عنه ضريبته ، ولهذا اختار من اختار من القراء الخروج عليهم .

                          وقد روي عن يزيد بن أبي حبيب ما يثبت ما كان من أخذهم إياها .

                          حدثنا عبد الله بن صالح ، ثنا حرملة بن عمران عن يزيد بن أبي حبيب قال : " أعظم ما أتت هذه الأمة بعد نبيها ثلاث خصال : قتلهم عثمان بن [ ص: 180 ] عفان ، وإحراقهم الكعبة ، وأخذهم الجزية من المسلمين .

                          والجزية وضعت في الأصل إذلالا للكفار وصغارا فلا تجامع الإسلام بوجه ، ولأنها عقوبة فتسقط بالإسلام وإذا كان الإسلام يهدم ما قبله من الشرك والكفر والمعاصي فكيف لا يهدم ذل الجزية وصغارها ؟ وإن المقصود تألف الناس على الإسلام بأنواع الرغبة فكيف لا يتألفون بإسقاط الجزية ؟ وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي على الإسلام عطاء لا يعطيه على غيره ، وقد جعل الله سبحانه سهما في الزكاة للمؤلفة قلوبهم ، فكيف لا يسقط عنهم الجزية بإسلامهم ؟ وكيف يسلط الكفار أن يتحدثوا بينهم بأن من أسلم منهم أخذ بالضرب والحبس ومنع ما يملكه حتى يعطي ما عليه من الجزية ؟

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية