الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              8 [ ص: 431 ] 2 - باب دعاؤكم إيمانكم

                                                                                                                                                                                                                              لقوله -عز وجل-: قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم [الفرقان: 77]

                                                                                                                                                                                                                              8 - حدثنا عبيد الله بن موسى قال: أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان، عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان". [4515 - مسلم 16 - فتح: 1 \ 49]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              نا عبيد الله بن موسى، أنا حنظلة بن أبي سفيان، عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان".

                                                                                                                                                                                                                              الكلام عليه من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: لما فرغ البخاري رحمه الله من ابتداء الوحي عقبه بذكر الإيمان، ثم بالصلاة بمقدماتها الطهارات ثم بالزكاة ومتعلقاتها، ثم بالحج ومتعلقاته، ثم بالصوم. وقصد الاعتناء بالترتيب المذكور في حديث ابن عمر هذا الذي ساقه، وإن وقع في بعض روايات "الصحيح" تقديم الصوم على الحج.

                                                                                                                                                                                                                              والكتاب مصدر سمي به المفعول مجازا، وهو خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا كتاب ولفظة (ك. ت. ب) في جميع تصاريفها راجعة إلى معنى الجمع والضم; ومنه الكتاب والكتيبة والمكتوب والكاتب وهو في اصطلاح المصنفين كالجنس الجامع لأبواب أو مسائل.

                                                                                                                                                                                                                              والإيمان في اللغة: التصديق، وفي الشرع: تصديق خاص، كما ستعلمه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 432 ] ثانيها: ابتداء كتاب الإيمان بالبسملة وهكذا عادته في كل كتاب من كتبه عملا بالحديث السالف أول الكتاب: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد أقطع"، وفي رواية "ببسم الله الرحمن الرحيم"، وفي رواية "بذكر الله". فإن قلت: البسملة في أول كتابه تغني عن ذلك، فالجواب أن فيه مزيد اعتناء ومحافظة على التمسك بالكتاب والسنة.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: هذا الحديث أخرجه البخاري هنا وفي التفسير، وقال فيه: وزاد عثمان بن صالح، عن ابن وهب: أخبرني فلان وحيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو أن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن نافع، عن ابن عمر.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه مسلم في الإيمان عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، -عن حنظلة به، وعن ابن معاذ، عن أبيه، عن عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن جده، وعن ابن نمير، عن أبي خالد الأحمر، عن سعد بن طارق، عن سعد بن عبيدة، عن ابن عمر، وعن سهل بن عثمان، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن سعد بن طارق به، فوقع لمسلم من جميع طرقه خماسيا وللبخاري رباعيا، فعلاه برجل.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: في التعريف (بحال) رواته:

                                                                                                                                                                                                                              أما عبد الله (ع) بن عمر فهو الإمام الصالح أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المكي، وتقدم. تمام نسبه في ترجمة والده.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 433 ] أمه وأم أخته حفصة رضي الله عنهما زينب، وقيل: ريطة بنت مظعون أخت عثمان، أسلم بمكة قديما مع أبيه وهو صغير، وهاجر معه كما ذكره البخاري في الهجرة، ولا يصح قول من قال: إنه أسلم قبل أبيه وهاجر قبله. واستصغر عن أحد، وشهد الخندق وما بعدها، وهو أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية، وأحد العبادلة الأربعة، وثانيهم: ابن عباس، وثالثهم: عبد الله بن عمرو بن العاص، ورابعهم: عبد الله بن الزبير.

                                                                                                                                                                                                                              ووقع في "مبهمات النووي" وغيرها أن الجوهري أثبت ابن مسعود منهم، وحذف (ابن عمرو)، وليس كما ذكره عنه (فالذي في "صحاحه" إثبات ابن عمرو وحذف ابن الزبير فاعلمه)، وقد أسلفنا قريبا التنبيه عليه.

                                                                                                                                                                                                                              ووقع في "شرح الرافعي" في الجنايات عد ابن مسعود منهم، وحذف ابن الزبير وابن عمرو بن العاص، وهو غريب منه.

                                                                                                                                                                                                                              روي له ألفا حديث وستمائة وثلاثون حديثا، اتفقا منها على مائة وسبعين، وانفرد البخاري بأحد وثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين. وهو أكثر الصحابة رواية بعد أبي هريرة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 434 ] روى عنه أولاده: سالم وعبد الله وحمزة وبلال، وخلائق من جلة التابعين.

                                                                                                                                                                                                                              ومناقبه لا تحصى، ونظيره في المتابعة للآثار وإعراضه عن الدنيا ومقاصدها عزيز، وكذا احتياطه في الفتوى، وعلمه بالمناسك، وكرمه، فربما تصدق في المجلس الواحد بثلاثين ألفا. وهو أحد الساردين للصوم كوالده وعائشة وأبي طلحة وحمزة (بن عمرو الأسلمي، و) شهد له الشارع بالصلاح، وعاش بعد ذلك زيادة على ستين سنة يترقى في الخيرات.

                                                                                                                                                                                                                              قال الزهري: لا يعدل (برأي) ابن عمر، فإنه أقام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستين سنة فلم يخف عنه شيء من أمره ولا من أمر الصحابة.

                                                                                                                                                                                                                              مات بفخ -بفتح الفاء وتشديد الخاء المعجمة- موضع بقرب مكة، قال الصغاني: وهو وادي الزاهر. سنة ثلاث، وقيل: أربع وسبعين بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر وقيل: بسنة، عن أربع، وقيل: ست وثمانين سنة، قال يحيى بن بكير: توفي بمكة بعد الحج، ودفن بالمحصب، وبعض الناس يقول: بفخ، قلت: وقيل: بسرف، وكلها مواضع بقرب مكة (بعضها أقرب إلى مكة) من بعض.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 435 ] فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              في الصحابة أيضا عبد الله بن عمر، جرمي، يقال: إن له صحبة، يروى عنه حديث في الوضوء.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الراوي عنه فهو الإمام عكرمة بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي المكي الثقة الجليل، سمع ابن عمر وابن عباس وغيرهما، وعنه عمرو بن دينار وغيره من التابعين.

                                                                                                                                                                                                                              مات بمكة بعد عطاء، ومات عطاء سنة أربع عشرة أو خمس عشرة ومائة. والعاصي جده هو أخو أبي جهل، قتل العاصي (هذا عمر ببدر كافرا، وهو خال عمر على قول (...).

                                                                                                                                                                                                                              وفي الصحابة عكرمة) ثلاثة لا رابع لهم: ابن أبي جهل المخزومي، [ ص: 436 ] وابن عامر العبدري، وابن عبيد الخولاني.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة ثانية:

                                                                                                                                                                                                                              ليس في الصحيحين من اسمه عكرمة إلا هذا، وعكرمة بن عبد الرحمن، وعكرمة مولى ابن عباس، وروى مسلم للأخير مقرونا وتكلم فيه لرأيه، وسيأتي في كتاب العلم.

                                                                                                                                                                                                                              وعكرمة بن عمار، أخرج له مسلم في الأصول واستشهد به البخاري (ومسلم) في (كتاب) البر والصلة.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الراوي عن عكرمة فهو حنظلة بن أبي سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن (حذافة) بن جمح الجمحي المكي القرشي الثقة الحجة، سمع عطاء وغيره من التابعين، وعنه الثوري وغيره من الأعلام. مات سنة إحدى وخمسين ومائة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 437 ] روى له الجماعة. واستثنى شيخنا في "شرحه" ابن ماجه وصرح المزي في "تهذيبه" بخلافه فاعلمه.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الراوي عن حنظلة فهو السيد الجليل أبو محمد عبيد الله بن موسى بن باذام العبسي -بالموحدة- مولاهم الكوفي الثقة، سمع الأعمش وخلقا من التابعين، وعنه أحمد والبخاري وغيرهما، وروى مسلم وأصحاب السنن الأربعة عن رجل عنه، وكان عالما بالقراءات رأسا فيها. مات بالإسكندرية سنة ثلاث عشرة ومائتين في ذي القعدة، وقيل: سنة أربع عشرة.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الإسناد كلهم مكيون إلا عبيد الله هذا فإنه كوفي، وكله على شرط الستة إلا عكرمة بن خالد فإن ابن ماجه لم يخرج له.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها: في التعريف بجماعة وقع ذكرهم في هذه الآثار:

                                                                                                                                                                                                                              أما عمر (ع) بن عبد العزيز فهو: الإمام العادل، خامس الخلفاء (عمر بن عبد العزيز) بن مروان بن الحكم بن العاصي بن أمية بن عبد شمس الأموي القرشي، المجمع على جلالته وزهده وعلمه، وترجمته أفردت بالتأليف، سمع عبد الله بن جعفر وأنسا وغيرهما، [ ص: 438 ] وعنه ابناه (وعدة)، وأمه حفصة بنت عاصم بن عمر بن الخطاب.

                                                                                                                                                                                                                              ولي بعد ابن عمه سليمان بن عبد الملك، وكانت خلافته مثل خلافة الصديق سواء. ومات بدير سمعان - قرية بقرى حمص- سنة إحدى ومائة لعشر بقين من رجب، عن تسع وثلاثين سنة وستة أشهر، وكان أشج يقال له: أشج بني أمية، ضربته (دابة) في وجهه.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              ليس له في البخاري سوى حديث واحد رواه في الاستقراض من حديث أبي هريرة في الفلس.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة ثانية:

                                                                                                                                                                                                                              في الراوة أيضا عمر بن عبد العزيز بن عمران بن مقلاص روى له (الترمذي) فقط.

                                                                                                                                                                                                                              وأما عدي فهو السيد الجليل أبو فروة عدي (د. ت. ن) بن عدي بن عميرة -بفتح العين- بن زرارة بن الأرقم بن (عمرو) بن وهب بن ربيعة بن الحارث بن عدي الكندي الجزري التابعي. روى عن أبيه [ ص: 439 ] وعمه العرس بن عميرة، وهما صحابيان، وعنه الحكم وغيره من التابعين وغيرهم، قال البخاري: هو سيد أهل الجزيرة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال مسلمة بن عبد الملك: في كندة ثلاثة ينزل الله بهم الغيث، وينصر بهم على الأعداء: رجاء بن حيوة، وعدي بن عدي، وعبادة بن نسيء.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أحمد: عدي لا يسأل عن مثله، ووثقه يحيى وأبو حاتم وغيرهما.

                                                                                                                                                                                                                              (وقال ابن سعد: كان ناسكا فقيها، ولي لسليمان بن عبد الملك الجزيرة وإرمينية وأذربيجان).

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن أبي حاتم: كان عامل عمر بن عبد العزيز على الموصل.

                                                                                                                                                                                                                              مات سنة عشرين ومائة، روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه ولم يخرج له في الصحيحين ولا في الترمذي.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              إرمينية هذه بكسر الهمزة كما صرح به البكري، ووقع بخط النووي في القطعة التي له على هذا الكتاب فتحها ضبطا، سميت بذلك; لكون الأرمن فيها أو بيرمون من ولد يافث بن نوح.

                                                                                                                                                                                                                              وأما معاذ فستأتي ترجمته في موضعه اللائق به وكذا غيره مما ذكر، وليس في الصحابة من اسمه معاذ بن جبل غيره.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 440 ] الوجه السادس: في اتصال هذه الآثار التي ذكرها البخاري رحمه الله.

                                                                                                                                                                                                                              أما أثر عمر بن عبد العزيز فأخرجه أبو الحسن عبد الرحمن بن عمر بن يزيد (رسته) في كتاب "الإيمان" تأليفه، فقال: حدثنا ابن مهدي، نا جرير بن حازم، عن عيسى بن عاصم قال: كتب عمر.. فذكره، وهذا إسناد صحيح.

                                                                                                                                                                                                                              وأما أثر معاذ فأخرجه أيضا عن ابن مهدي، نا سفيان، عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال عنه، وهذا أيضا إسناد صحيح. (ورويناه [ ص: 441 ] في مجالس أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي بإسنادنا إليه عن عبد الجبار بن العلاء، ثنا وكيع، عن مسعر، عن جامع بن شداد به).

                                                                                                                                                                                                                              وأما أثر ابن مسعود فأخرجه أيضا عن أبي زهير، حدثنا الأعمش، عن أبي ظبيان، عن علقمة عنه قال: الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله. وهذا أيضا إسناد صحيح.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 442 ] ثم قال: ونا عبد الله، نا سفيان، عن الأعمش، عن أبي ظبيان بمثله، وروى أحمد في كتاب "الزهد" عن وكيع، عن شريك، عن هلال، عن ابن عكيم قال: سمعت ابن مسعود يقول في دعائه: اللهم زدنا إيمانا (ويقينا وفقها.

                                                                                                                                                                                                                              وأما أثر مجاهد فرواه عبد بن حميد في "تفسيره" عن شبابة، عن ورقاء عنه، وهذا إسناد صحيح ورواه ابن المنذر بإسناده بلفظة: وصاه وأنبياءه كلهم دينا واحدا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 443 ] وأما أثر ابن عباس فرواه الأزهري في "تهذيبه" عن ابن ماهك عن حمزة، عن عبد الرزاق، عن أبي إسحاق، عن التميمي -يعني: أربدة- عن ابن عباس، وأنا: عن حمزة، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 444 ] شرعة ومنهاجا قال: الدين واحد والشريعة مختلفة. وروى ابن المنذر بسنده إليه أنه قال: لولا دعاؤكم [الفرقان: 77]،: لولا إيمانكم.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه السابع: في بيان ألفاظه ومعانيه:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: "البغض في الله والحب في الله من الإيمان" (في) هنا للسببية -أي: بسبب طاعة الله ومعصيته- كقوله عليه الصلاة والسلام: "في النفس المؤمنة مائة من الإبل" وكقوله في التي حبست الهرة فدخلت النار فيها، أي: بسببها وأصل (في) للظرفية.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (إن للإيمان فرائض وشرائع وسننا). قال ابن المرابط: الفرائض: ما فرض علينا من صلاة وزكاة ونحوهما، والشرائع كالتوجه إلى القبلة، وصفاف الصلاة، وعدد شهر رمضان، وعدد جلد القاذف، وعدد الطلاق إلى غير ذلك، والسنن: ما أمر به الشارع من فضائل الأعمال، فمتى أتى بالفرائض والسنن وعرف الشرائع، فهو مؤمن كامل.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 445 ] وقوله: (فإن أعش فسأبينها لكم) أي: أوضحها إيضاحا يفهمه كل أحد وإنما أخر بيانها; لاشتغاله بما هو أهم منها ولم يعلم أنهم يجهلون مقاصدها، ومعنى: ليطمئن قلبي [البقرة: 260] ليزداد، وهو المعنى الذي أراده البخاري.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: بالمشاهدة، كأن نفسه طالبته بالرؤية. والشخص قد يعلم الشيء من جهة، ثم يطلبه من اخرى.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: ليطمئن قلبي أي: إذا سألتك أجبتني.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (اجلس بنا نؤمن ساعة) أي: نتذاكر الخير وأحكام الآخرة وأمور الدين، فإن ذلك إيمان.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن المرابط: نتذاكر ما يصدق اليقين في قلوبنا; لأن الإيمان هو التصديق بما جاء من عند الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (اليقين الإيمان كله)، قال أهل اللغة: اليقين: هو العلم وزوال الشك، يقال: منه يقنت الأمر -بالكسر- يقنا، وأيقنت واستيقنت وتيقنت كله بمعنى، وأنا على يقين منه، وذلك عبارة عن التصديق وهو أصل الإيمان فعبر بالأصل عن الجميع كقولهم: الحج عرفة، وفيه دلالة على أن الإيمان يتبعض; لأن كلا وأجمع لا يؤكد بهما إلا ما يتبعض حسا أو حكما كما قاله أهل العربية.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 446 ] و(حاك) بالحاء المهملة، وفتح الكاف المخففة: ما يقع في القلب، ولا ينشرح له صدره، وخاف الإثم فيه، يقال فيه: حاك يحيك، وحك يحك، وأحاك يحيك، وفي "صحيح مسلم" من حديث النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البر والإثم فقال: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس" فالذي يبلغ حقيقة التقوى تكون نفسه متيقنة الإيمان سالمة من الشكوك. وعبر هنا بالصدر عن النفس والخلد.

                                                                                                                                                                                                                              وقولهم: ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا [الشورى: 13]): أوصيناك يا محمد وإياه دينا واحدا) معناه أن هذا الذي تظاهرت عليه أدلة الكتاب والسنة منزيادة الإيمان ونقصه، هو شرع الأنبياء قبل نبينا كما هو شرع نبينا; لأن الله تعالى قال: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية. ويقال: جاء نوح بتحريم الحرام وتحليل الحلال، وهو أول من جاء من الأنبياء بتحريم الأمهات والبنات والأخوات، ونوح أول نبي جاء بعد إدريس -عليه السلام-.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله في: ( شرعة ومنهاجا [المائدة: 48]، سبيلا وسنة.

                                                                                                                                                                                                                              دعاؤكم إيمانكم): يعني: أن ابن عباس فسر قوله تعالى: شرعة ومنهاجا بسبيل وسنة، وفسر قوله تعالى: قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم [الفرقان: 77]، قال المراد بالدعاء: الإيمان، فمعنى (دعاؤكم): إيمانكم.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بطال: لولا دعاؤكم الذي هو زيادة في إيمانكم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 447 ] وقال النووي: وهذا الذي قاله حسن، أي: فإن أصل الدعاء النداء والاستغاثة ففي "الجامع": سئل ثعلب عنه، فقال: هو النداء.

                                                                                                                                                                                                                              ويقال: دعا الله فلان بدعوة فاستجاب له، وقال ابن سيده: هو الرغبة إلى الله تعالى، دعاه دعاء ودعوى حكاها سيبويه، وفي "الغريبين" الدعاء: الغوث، وقد دعا، أي: استغاث قال تعالى: ادعوني أستجب لكم [غافر: 60].

                                                                                                                                                                                                                              ثم اعلم أنه يقع في كثير من نسخ البخاري هنا باب: دعاؤكم إيمانكم، ثم ساق حديث ابن عمر السالف، وعليه مشى شيخنا في "شرحه"، وليس ذلك بجيد; لأنه ليس مطابقا للترجمة; ولأنه ترجم أولا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بني الإسلام على خمس" ولم يذكره قبل هذا; إنما ذكره بعده، والصواب ما أسلفناه، وحكى أبو إسحاق عن بعضهم أن الشرعة: الدين.

                                                                                                                                                                                                                              والمنهاج: الطريق. وقيل: هما جميعا الطريق، والطريق هنا: الدين. لكن اللفظ إذا اختلف أتي فيه بألفاظ للتأكيد.

                                                                                                                                                                                                                              وقال محمد بن يزيد : شرعة معناها: ابتداء الطريق. والمنهاج [ ص: 448 ] الطريق المستمر.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن عرفة: الشرعة والشريعة سواء، وأصل الشريعة: مورد الماء. وذكر الواحدي وغيره في قوله تعالى: ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها [الجاثية: 18]، قال: الشريعة: الدين والملة والمنهاج والطريقة والسنة والقصد، قالوا: وبذلك سميت شريعة النهر; لأنه يتوصل منها إلى الانتفاع.

                                                                                                                                                                                                                              والشارع: الطريق الأعظم، وقال مجاهد في معنى الآية السالفة: ما يفعل بكم ربي لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه وتطيعوه. وقيل: معناه: ما يعبأ بخلقكم لولا توحيدكم إياه.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى: "بني الإسلام": أسس.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 449 ] وقوله: "على خمس" أي: خمس دعائم أو قواعد، وفي رواية لمسلم: "على خمسة" بالهاء وهو صحيح أيضا، أي: خمسة أشياء أو أركان أو أصول، وتحتمل الرواية السالفة وجها آخر وهو أن المراد خمسة أشياء، وإنما حذف الهاء; لكون الأشياء لم تذكر كقوله تعالى: يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [البقرة: 234]، والمعنى: عشرة أشياء، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من صام رمضان وأتبعه ستا" ونحو ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: "وإقام الصلاة": أصله: إقامة الصلاة، حذفت التاء، وقوله: "وإيتاء الزكاة" أي: أهلها، فحذف المفعول، والإيتاء: الإعطاء.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثامن:

                                                                                                                                                                                                                              مقصود الباب بيان زيادة الإيمان ونقصانه، وإطلاقه على الأعمال كالصلاة والصيام والذكر وغيرها، ومذهب السلف والمحدثين وجماعات من المتكلمين أن الإيمان قول وعمل ونية، ويزيد وينقص، ومعنى هذا أنه يطلق على التصديق بالقلب، وعلى النطق باللسان، وعلى الأعمال بالجوارح كالصلاة وغيرها، ويزيد بزيادة هذه وينقص بنقصها، وأنكر أكثر المتكلمين زيادته ونقصه، وقالوا: متى قبل الزيادة والنقص كان شكا وكفرا، قال المحققون منهم: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته ونقصانها وهي الأعمال، وفي هذا جمع بين ظواهر النصوص الواردة بالزيادة مع أقاويل السلف وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 450 ] قال النووي: وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهرا حسنا فالأظهر المختار خلافه، وهو أن نفس التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر، وتظاهر الأدلة، وانشراح الصدر، واستنارة القلب; ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشبه، ولا يتزلزل إيمانهم لعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة مستنيرة وإن اختلفت الأحوال عليهم.

                                                                                                                                                                                                                              وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك، فهذا مما لا يمكن إنكاره ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق الصديق لا يساوي تصديق آحاد الناس، ولهذا ذكر البخاري كما سيأتي في بابه عن ابن أبي مليكة قال: أدركت ثلاثين من الصحابة كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل.

                                                                                                                                                                                                                              ويدل له ظواهر نصوص الكتاب والسنة، فمن الآيات: التي ذكرهن البخاري وغيرهن، ومن السنة: أحاديث كثيرة في "الصحيح" ستأتي في مواضعها كحديث: "يخرج من النار من كان في قلبه وزن شعيرة من إيمان" وكذا: "من كان في قلبه وزن برة من إيمان" وكذا: "من كان في قلبه وزن ذرة" فهذا هو الصحيح الموافق لظواهر النصوص القطعية ولما قاله سلف الأمة، ولما يقضي به الحس، وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق، ودلائله لا تحصى من الكتاب والسنة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 451 ] قال تعالى: وما كان الله ليضيع إيمانكم [البقرة: 143] أي: صلاتكم، بإجماع.

                                                                                                                                                                                                                              ومثله الآيات التي ذكرها البخاري في الأحاديث، وأما الأحاديث فستمر بها في مواضعها إن شاء الله تعالى. وهذا المعنى أراد البخاري في "صحيحه" بالأبواب الآتية بعد هذا كقوله: باب: أمور الإيمان، الصلاة من الإيمان، الزكاة من الإيمان، الجهاد من الإيمان، وسائر أبوابه.

                                                                                                                                                                                                                              وأراد الرد على المرجئة في قولهم الفاسد: إن الإيمان قول بلا عمل، وبين غلطهم، وسوء اعتقادهم، ومخالفتهم الكتاب والسنة والإجماع.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بطال: مذهب جميع أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص. فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمن هو إتيانه بهذه الأمور الثلاثة: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح; وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أنه لو أقر وعمل بلا اعتقاد، أو اعتقد وعمل وجحد بلسانه لا يكون مؤمنا، وكذا إذا أقر واعتقد ولم يعمل الفرائض لا يسمى مؤمنا بالإطلاق; لقوله تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم إلى قوله: حقا [الأنفال: 2 - 4].

                                                                                                                                                                                                                              فأخبرنا تعالى أن المؤمن لا يكون إلا من هذه صفته; ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 452 ] فالحاصل أن الذي عليه أهل السنة أو جمهورهم أن من صدق بقلبه، ونطق بلسانه بالتوحيد ولكنه قصر في الأعمال الواجبة كترك الصلاة، وشرب الخمر لا يكون كافرا خارجا من الملة، بل هو عاص فاسق يستحق العذاب، وقد يعفى عنه، وقد يعذب، فإن عذب ختم له بالجنة، وسيأتي بيان هذا في بابه -إن شاء الله- وأبعد بعضهم فقال: إذا اعتقد بقلبه، ولم ينطق بلسانه من غير عذر يكون فائزا في الآخرة حكاه في "الشفا".

                                                                                                                                                                                                                              وقد ساق الحافظ أبو القاسم هبة الله اللالكائي في كتاب "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" عن عمر بن الخطاب وخمسة عشر من الصحابة: أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

                                                                                                                                                                                                                              وعن خلق من التابعين وأتباعهم فوق الخمسين.

                                                                                                                                                                                                                              وقال سهل بن المتوكل: أدركت ألف أستاذ كلهم يقول: الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص.

                                                                                                                                                                                                                              وقال يعقوب بن سفيان: أدركت أهل السنة والجماعة على ذلك بمكة، والمدينة والبصرة والشام والكوفة منهم: عبد الله بن يزيد المقرئ وعددهم فوق الثلاثين.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 453 ] وذكر أبو الحسن عبد الرحمن بن عمر في كتاب "الإيمان" ذلك عن خلق قال: ولو كان الإيمان قولا لكان المنافقون مؤمنين; لأنهم قد تكلموا بالقول.

                                                                                                                                                                                                                              وأيضا فلم يبعث الله نبيا قط إلا دعا قومه إلى القول والعمل وأمر بالقول والعمل، أولهم آدم، ثم ساق ذلك، وأما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان; فخشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج.

                                                                                                                                                                                                                              فوائد:

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: اتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين -على ما قال النووي- على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادا جازما خاليا من الشكوك، ونطق مع ذلك بالشهادتين، قال: فإن اقتصر على أحدهما لم يكن من أهل القبلة أصلا، بل يخلد في النار، إلا أن يعجز عن النطق بخلل في لسانه أو لعدم التمكن منه لمعالجة المنية، أو لغير ذلك، فإنه حينئذ يكون مؤمنا بالاعتقاد من غير لفظ، وإذا نطق بهما لم يشترط معهما أن يقول: وأنا بريء من كل دين خالف الإسلام على الأصح، إلا أن يكون من كفار يعتقدون اختصاص الرسالة بالعرب فلا يحكم بإسلامه حتى يتبرأ، ومن أصحابنا من شرط التبرؤ مطلقا وهو غلط; لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".

                                                                                                                                                                                                                              ومنهم من استحبه مطلقا كالاعتراف بالبعث، أما إذا اقتصر الكافر [ ص: 454 ] على قوله: لا إله إلا الله ولم يقل: محمد رسول الله. فالمشهور من مذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا يكون مسلما، ومن أصحابنا من قال: يصير مسلما، ويطالب بالشهادة الأخرى، فإن أبى جعل مرتدا، واحتج له بقوله - صلى الله عليه وسلم - في روايات: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" وحجة الجمهور الرواية السالفة وهي مقدمة على هذه; لأنها زيادة من ثقة، وليس فيها نفي للشهادة الثانية، وأيضا فإن فيها تنبيها على الأخرى.

                                                                                                                                                                                                                              وأغرب القاضي الحسين فشرط في ارتفاع السيف عنه أن يقر بأحكامها مع النطق بها، فأما مجرد قولها فلا، وهو عجيب منه.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: اشترط القاضي أبو الطيب من أصحابنا الترتيب بين كلمتي الشهادة في صحة الإسلام فيقدم الإقرار بالله على الإقرار برسوله، ولم أر من وافقه ولا من خالفه.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الحليمي في "منهاجه" ألفاظا تقوم مقام لا إله إلا الله، في بعضها نظر; لانتفاء ترادفها حقيقة، فقال: ويحصل الإسلام بقوله: لا إله غير الله، ولا إله سوى الله، أو ما عدا الله، ولا إله إلا الرحمن أو البارئ، أو لا رحمن أو لا باري إلا الله، أو لا ملك أو لا رازق إلا الله، وكذا لو قال: لا إله إلا العزيز أو العظيم أو الحليم أو الكريم أو القدير، قال: ولو قال: أحمد أو أبو القاسم رسول الله فهو كقوله: محمد رسول الله.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 455 ] الثالثة: لو أقر بوجوب الصلاة، أو الصوم أو غيرهما من أركان الإسلام وهو على خلاف ملته التي كان عليها، فهل يصير بذلك مسلما؟ فيه وجهان لأصحابنا: أصحهما: لا; لظاهر الحديث. ومن قال: يصير، قال: (كل ما) يكفر المسلم بإنكاره يصير الكافر بالإقرار به مسلما.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة: يصح الإسلام بالعجمية مع العجز عن العربية قطعا، وكذا مع القدرة على الأصح; لوجود الإقرار والاعتقاد.

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة: اختلف السلف والخلف في إطلاق الإنسان: أنا مؤمن مقتصرا عليه. فمنعت طائفة ذلك وقالوا: يقرنه بالمشيئة، وحكي هذا عن أكثر المتكلمين، وجوزته أخرى وهو المختار، وقول أهل التحقيق.

                                                                                                                                                                                                                              وذهبت طائفة ثالثة إلى جواز الأمرين وهو حسن، والمقالات الثلاث صحيحة باعتبارات مختلفة. فمن أطلق نظر إلى الحال; فإن أحكام الإيمان جارية عليه في الحال، ومن استثنى أراد التبرك أو اعتبار العاقبة، ومن خير نظر إلى الحالين ورفع الاختلاف.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 456 ] فرع: الكافر أجرى أصحابنا الخلاف فيه أيضا، وهو غريب، والمختار الإطلاق ولا نقول: هو كافر إن شاء الله.

                                                                                                                                                                                                                              السادسة: مذهب أهل الحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا يكفر أهل البدع والأهواء.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه التاسع:

                                                                                                                                                                                                                              أدخل البخاري في هذا الباب حديث ابن عمر; ليبين أن الإسلام يطلق على الأفعال، وأن الإسلام والإيمان قد يكونان بمعنى. وهذه المسألة فيها خلاف شهير للسلف، فقيل: معناهما واحد، وهو مذهب البخاري وغيره، وقيل: بينهما عموم وخصوص.

                                                                                                                                                                                                                              قال الخطابي: ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة. فأما الزهري فقال: الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل، واحتج بقوله تعالى: قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا الآية [الحجرات: 14].

                                                                                                                                                                                                                              وقال غيرهما بمعنى، واحتج بقوله تعالى: فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [الذاريات: 36].

                                                                                                                                                                                                                              وقد تكلم في هذه المسألة رجلان من كبراء أهل العلم، وصار كل [ ص: 457 ] واحد إلى قول من هذين القولين، ورد الآخر على المتقدم، وصنف عليه كتابا يبلغ عدد أوراقه مائتين.

                                                                                                                                                                                                                              قال الخطابي: والصحيح في هذا أن يقيد الكلام، وذلك أن المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال، ولا يكون مؤمنا في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم ولا عكس.

                                                                                                                                                                                                                              وإذا تقرر هذا استقام تأويل الآيات واعتدل القول فيها، وأصل الإيمان التصديق، وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد، فقد يكون المرء مستسلما في الظاهر غير منقاد في الباطن، وقد يكون صادقا في الباطن غير منقاد في الظاهر.

                                                                                                                                                                                                                              وقال البغوي في حديث جبريل: جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك; لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين; ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "أتاكم جبريل يعلمكم دينكم".

                                                                                                                                                                                                                              والتصديق، والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعا يدل عليه قوله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام [آل عمران: 19] و ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة: 3]، و ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه [آل عمران: 85].

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 458 ] وسيكون لنا عودة إليه إن شاء الله حيث ذكره البخاري رحمه الله قريبا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو عبد الله محمد بن الإسماعيلي الأصبهاني في "شرح مسلم": الإيمان لغة: التصديق. فإن عني به ذلك فلا يزيد ولا ينقص; لأن التصديق ليس شيئا يتجزأ حتى يتصور كماله مرة ونقصه أخرى، والإيمان في لسان الشرع هو: التصديق بالقلب، والعمل بالأركان، وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة والنقص، وهذا مذهب أهل السنة.

                                                                                                                                                                                                                              فالخلاف إذا إنما هو إذا صدق بقلبه ولم يضم إليه العمل بموجب الإيمان هل يسمى مؤمنا مطلقا أم لا؟ الوجه العاشر:

                                                                                                                                                                                                                              اختلف في الأسماء الشرعية كالصلاة، والصوم، والإيمان هل هي واقعة أم لا؟ فالمشهور وقوعها، وأبعد القاضي وأبو نصر القشيري فصمما على إنكارها، وأغرب أبو الحسين فحكى عن بعضهم أنه منع من إمكانها وهو واه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 459 ] واختلف القائلون بالوقوع هل هي حقائق مبتكرة أو مأخوذة من الحقائق اللغوية؟ فذهبت المعتزلة إلى الأول، وغيرهم إلى الثاني، وقالوا: إنها مجازات لغوية، حقائق شرعية، ومحل الخوض في هذه المسألة كتب الأصول.

                                                                                                                                                                                                                              قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: هذه أول مسألة نشأت في الاعتزال; لأنه لما قتل عثمان، ونشأت الفتنة، ثم جاءت المعتزلة قدحوا في الصحابة، وقالوا: لا نجعلهم مؤمنين بل منزلة بين منزلتين، قيل لهم: إنهم مؤمنون، لأن الإيمان هو التصديق، قالوا: اسم الإيمان نقل لمن لم يعمل كبيرة. قال الشيخ: يمكننا أن نقول: إن الأسماء منقولة إلا هذه المسألة فيحترز عنها.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الحادي عشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث ابن عمر هذا حديث عظيم، أحد قواعد الإسلام وجوامع الأحكام ولم يذكر فيه الجهاد; لأنه لم يكن فرض إذ ذاك، أو لأنه من فروض الكفايات، وتلك فرائض الأعيان.

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي: لما فتحت مكة سقط فرض الجهاد على من بعد من [ ص: 460 ] الكفار، وبقي فرضه على من يليهم، وكان أولا فرضا على الأعيان، وقيل: إنه مذهب ابن عمر، والثوري، وابن شبرمة إلا أن ينزل العدو فيأمر الإمام بالجهاد.

                                                                                                                                                                                                                              وجاء في البخاري لما أورده في التفسير أن رجلا قال لابن عمر: ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما وتترك الجهاد؟ وفي بعضها في أوله: أن رجلا قال لابن عمر: ألا تغزو؟! فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الإسلام بني على خمسة" الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              فهذا دال على أن ابن عمر كان لا يرى فرضه إما مطلقا -كما نقل عنه- أو في ذلك الوقت، وجاء هنا: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله". وجاء في بعض طرقه: "على أن يوحد الله" وفي أخرى: "على أن يعبد الله، ويكفر بما دونه" بدل الشهادة، والظاهر أن ما عدا الأولى من باب الرواية بالمعنى.

                                                                                                                                                                                                                              وجاء هنا تقديم الحج على رمضان وفي طريقين لمسلم، وفي بعض الطرق عكسه، وفي بعضها فقال رجل : الحج وصيام رمضان. فقال ابن عمر: لا، صيام رمضان والحج. هكذا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأبعد بعضهم ووهم رواية تقديم الحج وهو بعيد.

                                                                                                                                                                                                                              والصواب التأويل، إما بنسيان ابن عمر الرواية الأخرى عند الإنكار، أو كان لا يرى رواية الحديث بالمعنى، أو أن الواو للترتيب، [ ص: 461 ] أو أنه رواه على الأمرين.

                                                                                                                                                                                                                              لكنه لما رد عليه الرجل قال: لا ترد ما لا علم لك به، كما رواه في أحدهما. أو أن ابن عمر أرشده إلى التاريخ; لأن فرض رمضان في الثانية والحج بعده، إما في سنة خمس أو ست أو تسع.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية