الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) الذي يرجع إلى المرهون .

                                                                                                                                فأنواع ( منها ) : أن يكون محلا قابلا للبيع ، وهو أن يكون موجودا وقت العقد مالا مطلقا متقوما مملوكا معلوما مقدور التسليم ، ونحو ذلك فلا يجوز رهن ما ليس بموجود عند العقد ولا رهن ما يحتمل الوجود والعدم ، كما إذا رهن ما يثمر نخيله العام أو ما تلد أغنامه السنة أو ما في بطن هذه الجارية ، ونحو ذلك ولا رهن الميتة والدم ; لانعدام ماليتهما ، ولا رهن صيد الحرم والإحرام ; لأنه ميتة ، ولا رهن الحر ; لأنه ليس بمال أصلا ، ولا رهن أم الولد والمدبر المطلق والمكاتب ; لأنهم أحرار من وجه فلا يكونون أموالا مطلقة ، ولا رهن الخمر والخنزير من المسلم .

                                                                                                                                سواء كان العاقدان مسلمين أو أحدهما مسلم ; لانعدام مالية الخمر والخنزير في حق المسلم ; وهذا ; لأن الرهن إيفاء الدين والارتهان استيفاؤه ، ولا يجوز للمسلم إيفاء الدين من الخمر واستيفاؤه ; إلا أن الراهن إذا كان ذميا ، كانت الخمر مضمونة على المسلم المرتهن ; لأن الرهن إذا لم يصح كانت الخمر بمنزلة المغصوب في يد المسلم وخمر الذمي مضمون على المسلم بالغصب ، وإذا كان الراهن مسلما والمرتهن ذميا ، لا تكون مضمونة على أحد .

                                                                                                                                ( وأما ) في حق أهل الذمة فيجوز رهن الخمر والخنزير وارتهانهما منهم ; لأن ذلك مال متقوم في حقهم بمنزلة الخل والشاة عندنا ، ولا رهن المباحات من الصيد والحطب والحشيش ونحوها ; لأنها ليست بمملوكة في أنفسها .

                                                                                                                                ( فأما ) كونه مملوكا للراهن فليس بشرط لجواز الرهن حتى يجوز رهن مال الغير بغير إذنه بولاية شرعية ، كالأب والوصي يرهن مال الصبي بدينه وبدين نفسه ; لأن الرهن لا يخلو .

                                                                                                                                ( إما ) أن يجري مجرى الإيداع .

                                                                                                                                ( وإما ) أن يجري مجرى المبادلة ، والأب يلي كل واحد منهما في مال الصغير ، فإنه يبيع مال الصغير بدين نفسه ، ويودع مال الصغير فإن هلك الرهن في يد المرتهن قبل أن يفتكه الأب ، هلك بالأقل من قيمته ومما رهن به ; ; لأن الرهن وقع صحيحا وهذا حكم الرهن الصحيح وضمن الأب قدر ما سقط من الدين بهلاك الرهن ; ; لأنه قضى دين نفسه بمال ولده فيضمن ، فلو أدرك الولد والرهن قائم عند المرتهن ، فليس [ ص: 136 ] له أن يسترده قبل قضاء القاضي ; لما ذكرنا أن الرهن وقع صحيحا لوقوعه عن ولاية شرعية ، فلا يملك الولد نقضه ، ولكن يؤمر الأب بقضاء الدين ورد الرهن على ولده ; لزوال ولايته بالبلوغ .

                                                                                                                                ولو قضى الولد دين أبيه وافتك الرهن ، لم يكن متبرعا ، ويرجع بجميع ما قضى على أبيه ; لأنه مضطر إلى قضاء الدين ، إذ لا يمكنه الوصول إلى ملكه إلا بقضاء الدين كله ، فكان مضطرا فيه ، فلم يكن متبرعا بل يكون مأمورا بالقضاء من قبل الأب دلالة ، فكان له أن يرجع عليه بما قضى ، كما لو استعار من إنسان عبده ; ليرهنه بدين نفسه فرهن ، ثم إن المعير قضى دين المستعير وافتك الرهن أنه يرجع بجميع ما قضى على المستعير ; لما قلنا كذا هذا ، وكذلك حكم الوصي في جميع ما ذكرنا حكم الأب ، وإنما يفترقان في فصل آخر ، وهو أنه يجوز للأب أن يرتهن مال الصغير بدين ثبت على الصغير ، وإذا هلك يهلك بالأقل من قيمته ومن الدين ، وإذا أدرك الولد ليس له أن يسترده ; إذا كان الأب يشهد على الارتهان ، وإن كان لم يشهد على ذلك ، لم يصدق عليه بعد الإدراك إلا بتصديق الولد ، ويجوز له أن يرهن ماله عند ولده الصغير بدين للصغير عليه ويحبسه لأجل الولد ، وإذا هلك بعد ذلك فيهلك بالأقل من قيمته ومن الدين ; إذا كان أشهد عليه قبل الهلاك ، وإن كان لم يشهد عليه قبل الهلاك ، لم يصدق إلا أن يصدقه الولد بعد الإدراك ، والوصي لو فعل هذا من اليتيم ، لا يجوز رهنه ولا ارتهانه ، أما على أصل محمد فلا يشكل ; ; لأنه لا يرى بيع مال اليتيم من نفسه ولا شراء ماله لنفسه أصلا ، فكذلك الرهن ، وعلى قولهما ; إن كان يجوز البيع والشراء ، لكن إذا كان خيرا لليتيم ولا خير له في الرهن ; لأنه يهلك أبدا بالأقل من قيمته ومن الدين ، فلم يكن فيه خير لليتيم فلم يجز ، وكذلك يجوز رهن مال الغير بإذنه .

                                                                                                                                كما لو استعار من إنسان شيئا ; ليرهنه بدين على المستعير ; لما ذكرنا أن الرهن : إيفاء الدين وقضاؤه ، والإنسان بسبيل من أن يقضي دين نفسه بمال غيره بإذنه ، ثم إذا أذن المالك بالرهن فإذنه بالرهن لا يخلو إما إن كان مطلقا ، وإما إن كان مقيدا ، فإن كان مطلقا فللمستعير أن يرهنه بالقليل والكثير وبأي جنس شاء ، وفي أي مكان كان ومن أي إنسان أراد ; ولأن العمل بإطلاق اللفظ أصل ، وإن كان مقيدا بأن سمى قدرا أو جنسا أو مكانا أو إنسانا يتقيد به ، حتى لو أذن له أن يرهنه بعشرة ، لم يجز له أن يرهنه بأكثر منها ولا بأقل ; ; لأن المتصرف بإذن يتقيد تصرفه بقدر الإذن ، والإذن لم يتناول الزيادة ، فلم يكن له أن يرهن بالأكثر ولا بالأقل أيضا ; لأن المرهون مضمون والمالك إنما جعله مضمونا بالقدر ، وقد يكون له في ذلك غرض صحيح فكان التقييد به مفيدا ، وكذلك لو أذن أن يرهنه بجنس ، لم يجز له أن يرهنه بجنس آخر ; لأن قضاء الدين من بعض الأجناس قد يكون أيسر من بعض ، فكان التقييد بالجنس مفيدا .

                                                                                                                                وكذا إذا أذن له أن يرهنه بالكوفة ، لم يجز له أن يرهنه بالبصرة ; لأن التقييد بمكان دون مكان مفيد ، فيتقيد بالمكان المذكور ، وكذا إذا أذن له أن يرهنه من إنسان بعينه ، لم يجز له أن يرهنه من غيره ; لأن الناس متفاوتون في المعاملات فكان التعيين مفيدا ، فإن خالف في شيء مما ذكرنا ، فهو ضامن لقيمته إذا هلك ; لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه فصار غاصبا ، وللمالك أن يأخذ الرهن من يد المرتهن ; لأن الرهن لم يصح ، فبقي المرهون في يده بمنزلة المغصوب فكان له أن يأخذه منه ، وليس لهذا المستعير أن ينتفع بالمرهون لا قبل الرهن ولا بعد الانفكاك فإن فعل ضمن ; ; لأنه لم يؤذن له إلا بالرهن ، فإن انتفع به قبل أن يرهنه ، ثم رهنه بمثل قيمته ، برئ من الضمان حين رهن ، ذكره في الأصل ; لأنه لما انتفع به فقد خالف ، ثم لما رهنه فقد عاد إلى الوفاق فيبرأ عن الضمان ، كالمودع إذا عاد إلى الوفاق بعد ما خالف في الوديعة ، بخلاف ما إذا استعار العين لينتفع بها فخالف ، ثم عاد إلى الوفاق إنه لا يبرأ عن الضمان ; لأن المستعير للانتفاع ليست يده يد المالك بل يد نفسه ، حيث تعود المنفعة إليه فلم تكن بالعود إلى الوفاق رادا للمال إلى يد المالك ، فلا يبرأ عن الضمان .

                                                                                                                                ( فأما ) المستعير للرهن فيده قبل الرهن يد المالك ، فإذا عاد إلى الوفاق ، فقد رد المال إلى يد المالك فيبرأ عن الضمان وإذا قبض المستعير العارية فهلك في يده قبل أن يرهنه ، فلا ضمان عليه ; لأنه هلك في قبض العارية لا في قبض الرهن ، وقبض العارية قبض أمانة لا قبض ضمان ، وكذلك إذا هلك في يده بعد ما افتكه من يد المرتهن ; لأنه بالافتكاك من يد المرتهن عاد عارية فكان الهلاك في قبض العارية ولو وكل الراهن يعني المستعير بقبض الرهن من المرتهن أحدا فقبضه فهلك في يد القابض ، فإن كان القابض في عياله ، لم يضمن ; لأن يده كيده ، [ ص: 137 ] والمالك رضي بيده ، وإن لم يكن في عياله ضمن ; لأن يده ليست كيده فلم يكن المالك راضيا بيده ، وإن هلك في يد المرتهن ، وقد رهن على الوجه الذي أذن فيه ، ضمن الراهن للمعير قدر ما سقط عنه من الدين بهلاك الرهن ; لأنه قضى دين نفسه من مال الغير بإذنه بالرهن ، إذ الرهن قضاء الدين ويتعذر القضاء عند الهلاك .

                                                                                                                                وكذلك لو دخله عيب فسقط بعض الدين ، ضمن الراهن ذلك القدر ; لأنه قضى ذلك القدر من دينه بمال الغير فيضمن ذلك القدر ، فكان المستعير بمنزلة رجل عنده وديعة لإنسان فقضى دين نفسه بمال الوديعة بإذن صاحبها ، فما قضى يكون مضمونا عليه وما لم يقبض يكون أمانة في يده ، فإن عجز الراهن عن الافتكاك فافتكه المالك ، لا يكون متبرعا ويرجع بجميع ما قضى على المستعير ، وذكر الكرخي أنه يرجع بقدر ما كان يملك الدين به ، ولا يرجع بالزيادة عليه ويكون متبرعا فيها ; حتى لو كان المستعير رهن بألفين وقيمة الرهن ألف فقضى المالك ألفين ، فإنه يرجع على المستعير بألفين وعلى ما ذكره الكرخي يرجع عليه بالألف .

                                                                                                                                ( وجه ) قول الكرخي أن المضمون على المستعير قدر الدين ، بدليل أنه لا يضمن عند الهلاك إلا قدر الدين ، فإذا قضى المالك الزيادة على المقدر ، كان متبرعا فيها .

                                                                                                                                ( وجه ) القول الآخر أن المالك مضطر إلى قضاء كل الدين الذي رهن به ; لأنه علق ماله عند المرتهن بحيث لا فكاك له إلا بقضاء كل الدين ، فكان مضطرا في قضاء الكل فكان مأذونا فيه من قبل الراهن دلالة ، كأنه وكله بقضاء دينه فقضاه المعير من مال نفسه .

                                                                                                                                ولو كان كذلك ، لرجع عليه بما قضى كذا هذا ، وليس للمرتهن أن يمتنع من قبض الدين من المعير ، ويجبر على القبض ويسلم الرهن إليه ; لأن له ولاية قضاء الدين لتخلص ملكه وإزالة العلق عنه ، فلا يكون للمرتهن ولاية الامتناع من القبض والتسليم ، فإن اختلف الراهن والمعير وقد هلك الرهن فقال المعير : هلك في يد المرتهن وقال المستعير : هلك قبل أن أرهنه أو بعد ما افتكيته فالقول قول الراهن مع يمينه ; لأن الضمان إنما وجب على المستعير ; لكونه قاضيا دين نفسه من مال الغير بإذنه وهو ينكر القضاء فكان القول قول المنكر .

                                                                                                                                ولا يجوز رهن المجهول ولا يجوز التسليم ونحو ذلك مما لا يجوز بيعه ، والأصل فيه أن كل ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه ، وقد ذكرنا جملة ذلك في كتاب البيوع .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية