الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر غزاة ذي قرد

ثم قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، فلم يقم إلا أياما قلائل ، حتى أغار عيينة بن حصن الفزاري في خيل غطفان على لقاح النبي ، وأول من نذر بهم سلمة بن الأكوع [ ص: 74 ] الأسلمي ، هكذا ذكرها أبو جعفر بعد غزوة بني لحيان عن ابن إسحاق ، والرواية الصحيحة عن سلمة : أنها كانت بعد مقدمه المدينة منصرفا من الحديبية ، وبين الوقعتين تفاوت .

قال سلمة بن الأكوع : أقبلنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بعد صلح الحديبية ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهره مع رباح غلامه ، وخرجت معه بفرس طلحة بن عبيد الله ، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن بن عيينة بن حصن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستاقه أجمع ، وقتل راعيه . قلت : يا رباح ، خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة ، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المشركين قد أغاروا على سرحه ، ثم استقبلت الأكمة فناديت ثلاثة أصوات : يا صباحاه ! ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل ، وأرتجز وأقول :

خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع



قال : فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم ، فإذا خرج إلي فارس قعدت في أصل شجرة فرميته فعقرت به ، وإذا دخلوا في مضايق الجبل رميتهم بالحجارة من فوقهم ، فما زلت كذلك حتى ما تركت من ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرا إلا جعلته وراء ظهري ، وخلوا بيني وبينه ، وألقوا أكثر من ثلاثين رمحا ، وثلاثين بردة يستخفون بها ، لا يلقون شيئا إلا جعلت عليه أمارة ، أي علامة ، حتى يعرفه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا انتهوا إلى متضايق من ثنية أتاهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ممدا ، فقعدوا يتضحون ، فلما رآني قال : ما هذا ؟ قالوا : لقينا منه البرح ، وقد استنقذ كل ما بأيدينا ، فما برحت مكاني حتى أبصرت فوارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخللون الشجر ، أولهم الأخرم الأسدي - واسمه محرز بن نضلة من أسد بن خزيمة - وعلى أثره أبو قتادة ، وعلى أثرهما المقداد بن عمرو الكندي ، فأخذت بعنان الأخرم وقلت : احذر القوم لا يقتطعوك حتى تلحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، فقال : يا سلمة ، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تحل بيني وبين الشهادة . قال : فخليته ، فالتقى هو وعبد الرحمن بن عيينة ، فعقر الأخرم بعبد الرحمن فرسه ، وطعنه عبد الرحمن فقتله ، وتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم ، ولحق أبو قتادة فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبد الرحمن فطعنه ، فانطلقوا هاربين ، قال سلمة : فوالذي [ ص: 75 ] كرم وجه محمد لأتبعنهم أعدو على رجلي ، حتى ما أرى من أصحاب محمد ولا غبارهم شيئا .

وعدلوا قبل غروب الشمس إلى غار فيه ماء ، يقال له : ذو قرد ، يشربون منه وهم عطاش ، فنظروا إلي أعدو في آثارهم ، فحليتهم ، فما ذاقوا منه قطرة ، قال : واشتدوا في ثنية ذي أبهر ، فأرشق بعضهم بسهم ، فيقع في نغض كتفه ، فقلت :


خذها وأنا ابن الأكوع     واليوم يوم الرضع

.

وإذا فرسان على الثنية ، فجئت بهما أقودهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .

ولحقني عمي عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن ، وسطيحة فيها ماء ، فتوضأت وصليت وشربت ، ثم جئت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على الماء الذي حليتهم عنه بذي قرد ، وإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ تلك الإبل التي استنقذت من العدو ، وكل رمح ، وكل بردة ، وإذا بلال قد نحر لهم ناقة من الإبل وهو يشوي منها ، فقلت : يا رسول الله ، خلني أنتخب مائة رجل فلا يبقى منهم عين تطرف . فضحك وقال : إنهم ليقرون بأرض غطفان ، فجاء رجل من غطفان فقال : نحر لهم فلان جزورا ، فلما كشطوا عنها جلدها رأوا غبارا ، فقالوا : أتيتم ، فخرجوا هاربين .

فلما أصبحنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : خير فرساننا أبو قتادة ، وخير رجالنا سلمة بن الأكوع ، ثم أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم الفارس ، وسهم الراجل ، ثم أردفني على العضباء . فبينما نحن نسير ، وكان رجل من الأنصار لا يسبق شدا ، فقال : ألا من مسابق ؟ مرارا ، فقلت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، إيذن لي فلأسابق الرجل . قال : إن [ ص: 76 ] شئت . قال : فطفرت وربطت شرفا أو شرفين فألحقه ، فقلت : سبقتك والله ! فسبقته إلى المدينة ، فلم نمكث بها إلا ثلاثا حتى خرجنا إلى خيبر
.

وفي هذه الغزوة نودي : يا خيل الله اركبي ، ولم يكن يقال قبلها .

( قرد بفتح القاف والراء ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية