الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 75 ] قوله تعالى : فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أإنك لمن المصدقين أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون قال هل أنتم مطلعون فاطلع فرآه في سواء الجحيم قال تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون

قوله تعالى : فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون أي يتفاوضون فيما بينهم أحاديثهم في الدنيا . وهو من تمام الأنس في الجنة . وهو معطوف على معنى " يطاف عليهم " المعنى يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشراب . قال بعضهم :


وما بقيت من اللذات إلا أحاديث الكرام على المدام



فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا ، إلا أنه جيء به ماضيا على عادة الله تعالى في إخباره .

قوله تعالى : قال قائل منهم أي من أهل الجنة إني كان لي قرين أي صديق ملازم ، وقيل : أراد بالقرين قرينه من الشيطان ، كان يوسوس إليه بإنكار البعث . يقول أإنك لمن المصدقين أي بالمبعث والجزاء . وقال سعيد بن جبير : قرينه شريكه . وقد مضى في [ الكهف ] ذكرهما وقصتهما والاختلاف في اسميهما مستوفى عند قوله تعالى : واضرب لهم مثلا رجلين وفيهما أنزل الله - جل وعز - : قال قائل منهم إني كان لي قرين إلى من المحضرين . وقرئ : " أإنك لمن المصدقين " بتشديد الصاد . رواه علي بن كيسة عن سليم عن حمزة . قال النحاس : ولا يجوز " أإنك لمن المصدقين " لأنه لا معنى للصدقة هاهنا . وقال القشيري : وفي قراءة عن حمزة " أإنك لمن المصدقين " بتشديد الصاد . واعترض عليه بأن هذا من التصديق لا من التصدق . والاعتراض باطل ; لأن القراءة إذا ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا مجال للطعن فيها . فالمعنى " أإنك لمن المصدقين " بالمال طلبا في ثواب الآخرة . أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون أي مجزيون محاسبون بعد الموت . قال هل أنتم مطلعون ف " قال " الله تعالى لأهل الجنة : هل أنتم مطلعون . وقيل : هو من قول المؤمن لإخوانه في الجنة هل أنتم مطلعون إلى النار لننظر كيف حال ذلك القرين . وقيل : هو من قول الملائكة . وليس هل أنتم مطلعون [ ص: 76 ] باستفهام ، إنما هو بمعنى الأمر ، أي : اطلعوا ، قاله ابن الأعرابي وغيره . ومنه لما نزلت آية الخمر ، قام عمر قائما بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم رفع رأسه إلى السماء ، ثم قال : يا رب بيانا أشفى من هذا في الخمر . فنزلت : فهل أنتم منتهون قال : فنادى عمر : انتهينا يا ربنا . وقرأ ابن عباس : " هل أنتم مطلعون " بإسكان الطاء خفيفة " فأطلع " بقطع الألف مخففة على معنى هل أنتم مقبلون ، فأقبل . قال النحاس " فأطلع فرآه " فيه قولان : أحدهما : أن يكون فعلا مستقبلا معناه : فأطلع أنا ، ويكون منصوبا على أنه جواب الاستفهام . والقول الثاني : أن يكون فعلا ماضيا ويكون اطلع وأطلع واحدا . قال الزجاج : يقال طلع وأطلع واطلع بمعنى واحد . وقد حكي هل أنتم مطلعون بكسر النون وأنكره أبو حاتم وغيره . النحاس : وهو لحن لا يجوز ; لأنه جمع بين النون والإضافة ، ولو كان مضافا لكان هل أنتم مطلعي ، وإن كان سيبويه والفراء قد حكيا مثله ، وأنشدا :


هم القائلون الخير والآمرونه     إذا ما خشوا من محدث الأمر معظما



وأنشد الفراء : والفاعلونه . وأنشد سيبويه وحده :


ولم يرتفق والناس محتضرونه



وهذا شاذ خارج عن كلام العرب ، وما كان مثل هذا لم يحتج به في كتاب الله عز وجل ، ولا يدخل في الفصيح . وقد قيل في توجيهه : إنه أجرى اسم الفاعل مجرى المضارع لقربه منه ، فجرى مطلعون مجرى يطلعون . ذكره أبو الفتح عثمان بن جني وأنشد :


أرأيت إن جئت به أملودا     مرجلا ويلبس البرودا


أقائلن أحضروا الشهودا



فأجرى أقائلن مجرى أتقولن . وقال ابن عباس في قوله تعالى : هل أنتم مطلعون فاطلع فرآه إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار وأهلها . وكذلك قال كعب فيما ذكر ابن المبارك ، قال : إن بين الجنة والنار كوى ، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو كان له في الدنيا اطلع من بعض الكوى ، قال الله تعالى : فاطلع فرآه في سواء الجحيم أي في وسط النار والحسك حواليه ، قاله ابن مسعود . ويقال : تعبت حتى انقطع سوائي : أي : وسطي . وعن أبي عبيدة : قال لي عيسى بن عمر : كنت أكتب يا أبا عبيدة حتى ينقطع سوائي . وعن قتادة قال : قال بعض العلماء : لولا أن الله - جل وعز - عرفه إياه لما عرفه ، لقد تغير حبره وسبره . فعند ذلك [ ص: 77 ] يقول : تالله إن كدت لتردين إن مخففة من الثقيلة دخلت على كاد كما تدخل على كان . ونحوه إن كاد ليضلنا واللام هي الفارقة بينها وبين النافية . وقال الكسائي : " لتردين " أي : لتهلكني ، والردى الهلاك . وقال المبرد : لو قيل : " لتردين " لتوقعني في النار لكان جائزا ولولا نعمة ربي أي عصمته وتوفيقه بالاستمساك بعروة الإسلام والبراءة من القرين السوء . وما بعد لولا مرفوع بالابتداء عند سيبويه ، والخبر محذوف . لكنت من المحضرين قال الفراء : أي : لكنت معك في النار محضرا . وأحضر لا يستعمل مطلقا إلا في الشر ، قاله الماوردي .

التالي السابق


الخدمات العلمية