الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله وينتفع بها لو فقيرا وإلا تصدق على أجنبي ولأبويه وزوجته وولده لو فقيرا ) أي ينتفع الملتقط باللقطة بأن يتملكها بشرط كونه فقيرا نظرا من الجانبين كما جاز الدفع إلى فقير آخر وأما الغني فلا يجوز له الانتفاع بها فإن كان غير الملتقط فظاهر للحديث فإن لم يجئ صاحبها فليتصدق بها والصدقة إنما تكون على الفقير كالصدقة المفروضة وإن كان الملتقط فكذلك وقال الشافعي يجوز لقوله عليه السلام في حديث أبي رضي الله عنه { فإن جاء صاحبها فادفعها إليه وإلا فانتفع بها } وكان من الأغنياء ولأنه إنما يباح للفقير حملا له على رفعها صيانة لها والغني يشاركه فيه ولنا أنه مال الغير فلا يباح الانتفاع به إلا برضاه لإطلاق النصوص والإباحة للفقير لما روينا أو بالإجماع فبقي ما وراءه على الأصل والغنى محمول على الأخذ لاحتمال افتقاره في مدة التعريف والفقير قد يتوانى لاحتمال استغنائه فيها وانتفاع أبي رضي الله عنه كان بإذن الإمام وهو جائز بإذنه كما في الهداية فقد أفاد أن الغني يجوز له الانتفاع بإذن الإمام لكن على وجه القرض كما قيده به الزيلعي وغيره .

                                                                                        وظاهر كلامهم متونا وشروحا أن الحل للفقير بعد التعريف لا يتوقف على إذن القاضي ويخالفه ما في الخانية في المسألتين فإنه قال لو أراد الملتقط أن يصرفها إلى نفسه بعدما عرفها هذه المدة فهو على وجهين إن كان الملتقط غنيا لا يجوز له الانتفاع عندنا سواء فعل ذلك بأمر القاضي أو بغير أمره وإن كان الملتقط فقيرا إن أذن له القاضي أن ينفقها على نفسه يحل له أن ينفق ولا يحل بغير أمر القاضي عند عامة العلماء وقال بشر يحل ا هـ وإنما فسرنا الانتفاع بالتملك لأنه ليس المراد الانتفاع بدونه كالإباحة ولذا ملك بيعها وصرف الثمن إلى نفسه كما في الخانية أطلق في عدم الانتفاع للغني فشمل القرض ولذا قال في فتح القدير وليس للملتقط إذا كان غنيا أن يتملكها بطريق القرض إلا بإذن الإمام وإن كان فقيرا فله أن يصرفها إلى نفسه صدقة لا قرضا ا هـ .

                                                                                        وأطلق في ولده فشمل الصغير والحاصل أن أقارب الملتقط وأصوله وفروعه وزوجته كالأجنبي لأن الجواز للفقر وهو موجود في الكل وينبغي تقييد الصغير بأن يكون الملتقط فقيرا لأن الولد يعد غنيا بغناء أبيه كما قدمناه في الزكاة ولم يذكر المصنف حكم ما إذا انتفع بها الملتقط ثم حضر المالك لأنه معلوم من حكم ما إذا تصدق بها الملتقط ثم حضر المالك بالأولى فله أن يجيز وأن يضمن وفي الخانية رجل وجد عرضا لقطة فعرفها ولم يجد صاحبها وهو فقير ثم أنفق على نفسه ثم أصاب مالا قالوا لا يجب عليه أن يتصدق على الفقراء بمثل ما أنفق على نفسه زاد في الولوالجية وهو المختار فأفاد الاختلاف .

                                                                                        وفي الخانية [ ص: 171 ] امرأة وضعت ملاءتها وجاءت امرأة أخرى ووضعت ملاءتها ثم جاءت الأولى وأخذت ملاءة الثانية وذهبت لا ينبغي للثانية أن تنتفع بملاءة الأولى لأنه انتفاع بملك الغير فإن أرادت أن تنتفع بها قالوا ينبغي أن تتصدق هي بهذه الملاءة على ابنتها إن كانت فقيرة على نية أن يكون ثواب الصدقة لصاحبتها إن رضيت ثم تهب الابنة الملاءة منها فيسعها الانتفاع بها لأنها بمنزلة اللقطة فكان سبيلها التصدق وإن كانت غنية لا يحل لها الانتفاع بها وكذلك الجواب في المكعب إذا سرق ا هـ .

                                                                                        وقيده بعضهم بأن يكون المكعب الثاني مثل الأول أو أجود أما إذا كان الثاني دون الأول فله أن ينتفع به من غير هذا التكلف لأن أخذ الأجود وترك الأدون دليل الرضا بالانتفاع بالأدون كذا في الظهيرية وفيه مخالفة اللقطة من جهة جواز التصدق بها قبل التعريف وكأنه للضرورة وكذلك جوزوا الانتفاع للحال في مسألة مذكورة في الخلاصة وفي الولوالجية هي لو مات غريب في دار رجل ومعه قدر خمسة دراهم فأراد صاحب البيت أن يتصدق على نفسه إن كان فقيرا فله ذلك كاللقطة ا هـ .

                                                                                        ولم يصرحا بما زاد على الخمسة وفي الحاوي القدسي وإذا مات الغريب في بيت إنسان وليس له وارث معروف كان حكم تركته كحكم اللقطة إلا إذا كان مالا كثيرا يكون لبيت المال بعد البحث والفحص عن ورثته سنين ا هـ .

                                                                                        وفي الخانية رجل غريب مات في دار رجل وليس له وارث معروف وخلف ما يساوي خمسة دراهم وصاحب الدار فقير ليس له أن يتصدق بهذا المال على نفسه لأنه ليس بمنزلة اللقطة ا هـ .

                                                                                        وهو مخالف لما ذكرنا هـ والأول أثبت وصرح به في المحيط وأما مسألة الحمام فقال في الظهيرية رجل له محصنة حمام اختلط بها أهلي لغيره لا ينبغي له أن يأخذه فإن أخذه طلب صاحبه ليرده عليه لأنه في معنى اللقطة فإن فرخ عنده فإن كانت الأم غريبة لا يتعرض لفرخها وإن كانت الأم لصاحب المحصنة والغريب ذكر فالفرخ له قال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي وبهذا تبين أن من اتخذ برج حمام فأوكرت فيه حمام الناس فما يأخذ من أفراخها لا يحل له وهو بمنزلة اللقطة في يده فإن كان فقيرا له أن يتناول لحاجته وإن كان غنيا ينبغي له أن يتصدق بها على فقير ثم يشتري ويحل له التناول قال شمس الأئمة وهكذا كان يفعل شيخنا شمس الأئمة الحلواني وكان مولعا بأكل الجوازل ومحصنة الحمام برجه وأوكرت اتخذت وكرا وهو بيت الحمام وغيره والمولع الحريص والجوازل جمع جوزل وهو فرخ الحمام ا هـ .

                                                                                        وفي القنية يمشي في السوق وينفخ في التراب فوجد عدلية أو فلسا أو ذهبا لا يحل له إلا بعد التعريف ثم التصدق عليه إن كان فقيرا ثم رقم لآخر أما الفلس والعدلية فيباح له إذا كان فقيرا وفي الزيادة لا ويجوز التصدق في العدلية والفلس قبل التعريف ا هـ .

                                                                                        وفي الظهيرية المأخوذ به أن للمأمور بالنثار سكرا أو غيره أن يحبس لنفسه مقدار ما يحبسه الناس وأن يلتقط ومن وقع في حجره أو ذيله شيء فأخذه منه غيره إن هيأه لذلك لا يكون للآخذ وإلا كان له وفي التتارخانية سارق دفع لرجل متاعا فينبغي له أن يتصدق به إن لم يعرف صاحبه وإلا رده ولا يرد إلى السارق والله سبحانه وتعالى أعلم . .

                                                                                        [ ص: 170 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 170 ] ( قوله بأن يتملكها ) قال في النهر معنى الانتفاع بها صرفها إلى نفسه كما في الفتح وهذا لا يتحقق ما بقيت في يده لا تملكها كما توهمه في البحر لما أنها باقية على ملك صاحبها ما لم يتصرف فيها حتى لو كانت أقل من نصاب وعنده ما تصير به نصابا حال عليه الحول تحت يده يجب عليه زكاة ا هـ .

                                                                                        ومقتضاه أنها لو كانت عينا فانتفع بها بلبس ونحوه لا يملكها مع أنه يصدق عليه أنه صرفها إلى نفسه ومراد المؤلف بالتملك الاحتراز عن الإباحة كما ينبه عليه أي ينتفع بها وهي ملكه حال الانتفاع لا أنه يباح له الانتفاع بها باقية على ملك صاحبها وإلا لم يكن له بيعها فليتأمل ( قوله وظاهر كلامهم متونا وشروحا إلخ ) يخالفه ما في متن مواهب الرحمن وينتفع بها بإذن القاضي وقيل بدونه وعزا الأول في شرحه البرهان إلى الأكثر كما نقله عنه في الشرنبلالية ( قوله وينبغي تقييد الصغير بأن يكون الملتقط فقيرا ) قال في النهر هذا سهو بل المراد الكبير إذ موضوع المسألة ما إذا كان الملتقط غنيا وله ابن فقير وهذا لا يتأتى في الصغير فكيف يشمله الإطلاق وقدمنا أنه لا يتصدق بها على ولد غني قال أبو السعود وقد تبعه الحموي ووجه عدمه الشمول أن ابن الغني الصغير يعد غنيا بغناء أبيه بخلاف ابنه الكبير حيث لا يعد غنيا بغناء أبيه وأقول : تسهية صاحب البحر إنما تتجه أن لو كان تصدق الملتقط بها على غيره ينحصر فيما لو كان غنيا مع أنه لا ينحصر إذ للفقير أن يتصدق بها أيضا كالغني وإن جاز له أن يصرفها إلى نفسه لفقره فيحمل كلام البحر عليه وكون موضوع المسألة ما إذا كان الملتقط غنيا لا يقدح في صحته ا هـ .




                                                                                        الخدمات العلمية