الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ الأذان للفجر قبل دخول وقتها ]

المثال السادس والأربعون : رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز الأذان للفجر قبل دخول وقتها كما في الصحيحين من حديث سالم بن عبد الله عن أبيه { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن بلالا يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم } وفي صحيح مسلم عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { لا يغرنكم نداء بلال ، ولا هذا البياض حتى ينفجر الفجر } وهو في الصحيحين من حديث ابن مسعود ولفظه : { لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره ; فإنه يؤذن - أو قال ينادي - بليل ليرجع قائمكم وينتبه نائمكم } قال مالك : [ ص: 260 ] لم تزل الصبح ينادى لها قبل الفجر ، فردت هذه السنة لمخالفتها الأصول والقياس على سائر الصلوات ، وبحديث حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر : { أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي : ألا إن العبد نام ، ألا إن العبد نام فرجع فنادى : ألا إن العبد نام } ولا ترد السنة الصحيحة بمثل ذلك ; فإنها أصل بنفسها ، وقياس وقت الفجر على غيره من الأوقات لو لم يكن فيه إلا مصادمته للسنة لكفى في رده ، فكيف والفرق قد أشار إليه صلى الله عليه وسلم ، وهو ما في النداء قبل الوقت من المصلحة والحكمة التي لا تكون في غير الفجر ؟ وإذا اختص وقتها بأمر لا يكون في سائر الصلوات امتنع الإلحاق . وأما حديث حماد عن أيوب فحديث معلول عند أئمة الحديث لا تقوم به حجة .

قال أبو داود : لم يروه عن أيوب إلا حماد بن سلمة . وقال إسحاق بن إبراهيم بن حبيب : سألت عليا وهو ابن المديني - عن حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر { أن بلالا أذن بليل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ارجع فناد إن العبد نام } فقال : هو عندي خطأ ، لم يتابع حماد بن سلمة على هذا ، إنما روي أن بلالا كان ينادي بليل .

قال البيهقي : قد تابعه سعيد بن رزين وهو ضعيف . وأما حماد بن سلمة فإنه أحد أئمة المسلمين حتى قال الإمام أحمد : إذا رأيت الرجل يغمز حماد بن سلمة فاتهمه ، فإنه كان شديدا على أهل البدع .

قال البيهقي : إلا أنه لما طعن في السن ساء حفظه ، فلذلك ترك البخاري الاحتجاج بحديثه ، وأما مسلم فاجتهد في أمره وأخرج من حديثه عن ثابت ما سمع منه قبل تغيره ، وما سوى حديثه عن ثابت لا يبلغ أكثر من اثني عشر حديثا أخرجها في الشواهد دون الاحتجاج به

. وإذا كان الأمر كذلك فالاحتياط لمن راقب الله عز وجل أن لا يحتج بما يجد من حديثه مخالفا لأحاديث الثقات الأثبات ، وهذا الحديث من جملتها ، ثم ذكر من طريق الدارقطني عن معمر عن أيوب قال : أذن بلال مرة بليل ، قال الدارقطني : هذا مرسل ، ثم ذكر من طريق إبراهيم وعبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة عن عبد العزيز بن أبي رواد عن ابن عمر { أن بلالا قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما حملك على ذلك ؟ قال : استيقظت وأنا وسنان ، فظننت أن الفجر قد طلع ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينادي في المدينة : ألا إن العبد قد نام ، وأقعده إلى جانبه حتى طلع الفجر } . ثم قال : هكذا رواه إبراهيم عن عبد العزيز ، وخالفه شعيب بن حرب ، فقال : عن عبد العزيز عن نافع عن مؤذن لعمر يقال له مسروح أنه أذن قبل الصبح ، فأمره عمر أن ينادي : ألا إن العبد قد نام .

قال أبو داود : ورواه حماد بن زيد عن عبيد الله بن عمر عن نافع أو غيره أن مؤذنا لعمر يقال له مسروح أو غيره ، ورواه الدراوردي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر : كان لعمر مؤذن يقال له مسعود ، فذكر نحوه ، قال أبو داود : وهذا أصح [ ص: 261 ] من ذلك ، يعني حديث عمر أصح .

قال البيهقي : وروي من وجه آخر عن عبد العزيز موصولا ، ولا يصح ، رواه عامر بن مدرك عنه عن نافع عن ابن عمر : { أن بلالا أذن قبل الفجر ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمره أن ينادي : إن العبد نام ، فوجد بلالا وجدا شديدا } ، قال الدارقطني : وهم فيه عامر بن مدرك .

والصواب عن شعيب بن حرب عن عبد العزيز عن نافع عن مؤذن عمر عن عمر من قوله ، وروي عن أنس بن مالك ، ولا يصح ، وروي عن أبي يوسف القاضي عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس : { أن بلالا أذن قبل الفجر ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصعد فينادي : ألا إن العبد نام ، ففعل ، وقال : ليت بلالا لم تلده أمه ، وابتل من نضح جبينه } .

قال الدارقطني : تفرد به أبو يوسف عن سعيد ، يعني موصولا ، وغيره يرسله عن سعيد عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والمرسل أصح ، ورواه الدارقطني من طريق محمد بن القاسم الأسدي : ثنا الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس ، ثم قال : محمد بن القاسم الأسدي ضعيف جدا ، وقال البخاري : كذبه الإمام أحمد ، وروي عن حميد بن هلال { أن بلالا أذن ليلة بسواد ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى مقامه فينادي : إن العبد نام } ، ورواه إسماعيل بن مسلم عن حميد عن أبي قتادة ، وحميد لم يلق أبا قتادة ; فهو مرسل بكل حال . وروي عن شداد مولى عياض قال : { جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر فقال : لا تؤذن حتى يطلع الفجر } ، وهذا مرسل .

قال أبو داود : شداد مولى عياض لم يدرك بلالا .

وروى الحسن بن عمارة عن طلحة بن مصرف عن سويد بن غفلة عن بلال قال : { أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أؤذن حتى يطلع الفجر } ، وعن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال مثله ، ولم يروه هكذا غير الحسن بن عمارة ، وهو متروك ، ورواه الحجاج بن أرطاة عن طلحة وزبيد عن سويد بن غفلة { أن بلالا لم يؤذن حتى ينشق الفجر } ، هكذا رواه ، لم يذكر فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلاهما ضعيفان .

وروي عن سفيان عن سليمان التيمي عن أبي عثمان { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال : لا تؤذن - وجمع سفيان أصابعه الثلاث - لا تؤذن حتى يقول الفجر هكذا } - وصف سفيان بين السبابتين ثم فرق بينهما - قال : وروينا عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود ما دل على أذان بلال بليل ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر معاني تأذينه بالليل ، وذلك أولى بالقبول لأنه موصول وهذا مرسل ، وروي عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي إسحاق عن الأسود قال : { قالت لي عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوتر من الليل رجع إلى فراشه ، فإذا أذن بلال قام ; فكان بلال يؤذن إذا طلع الفجر ، فإن كان جنبا اغتسل ، وإن لم يكن توضأ ثم صلى ركعتين } ، وروى الثوري عن أبي إسحاق في هذا الحديث قال : ما كان المؤذن يؤذن حتى يطلع الفجر ، وروى شعبة عن أبي إسحاق عن [ ص: 262 ] الأسود : { سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل ، قالت : كان ينام أول الليل ، فإذا كان السحر أوى ، ثم يأتي فراشه فإن كانت له حاجة إلى أهله ألم بهم ، ثم ينام ، فإذا سمع النداء - وربما قالت الأذان - وثب ، وربما قالت قام ، فإذا كان جنبا أفاض عليه الماء ، وربما قالت : اغتسل ، وإن لم يكن جنبا توضأ ثم خرج للصلاة } ، وقال زهير بن معاوية : عن أبي إسحاق في هذا الحديث : فإذا كان عند النداء الأول وثب .

قال البيهقي : وفي روايته ورواية شعبة كالدليل على أن هذا النداء كان قبل طلوع الفجر ، وهي موافقة لرواية القاسم عن عائشة ، وذلك أولى من رواية من خالفها ، وروي عن عبد الكريم عن نافع عن ابن عمر عن حفصة قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أذن المؤذن صلى الركعتين ، ثم خرج إلى المسجد وحرم الطعام ، وكان لا يؤذن إلا بعد الفجر } .

قال البيهقي : هكذا في هذه الرواية ، وهو محمول إن صح على الأذان الثاني ، والصحيح عن نافع بغير هذا اللفظ ، ورواه مالك عن نافع عن ابن عمر عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها أخبرته { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة } والحديث في الصحيحين .

فإن قيل : عمدتكم في هذا إنما هو على حديث بلال ، ولا يمكن الاحتجاج به ; فإنه قد اضطرب الرواة فيه هل كان المؤذن بلالا أو ابن أم مكتوم ، وليست إحدى الروايتين أولى من الأخرى ، فتتساقطان ، فروى شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن قال : سمعت عمتي أنيسة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن ابن أم مكتوم ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال } رواه البيهقي وابن حبان في صحيحه . فالجواب أن هذا الحديث قد رواه ابن عمر وعائشة وابن مسعود وسمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم : { أن بلالا يؤذن بليل } وهذا الذي رواه صاحبا الصحيح ، ولم يختلف عليهم في ذلك ، وأما حديث أنيسة فاختلف عليها في ثلاثة أوجه ; أحدها : كذلك رواه محمد بن أيوب عن أبي الوليد وابن عمر عن شعبة ، الثاني : كحديث عائشة وابن عمر : { أن بلالا يؤذن بليل } هكذا رواه محمد بن يونس الكديمي عن أبي الوليد عن شعبة ، وكذلك رواه أبو داود الطيالسي وعمرو بن مرزوق عن شعبة ; الثالث : روي على الشك : { إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم } أو قال : { ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال } كذلك رواه سليمان بن حرب وجماعة ، والصواب رواية أبي داود الطيالسي وعمرو بن مرزوق لموافقتها لحديث ابن عمر وعائشة ، وأما رواية أبي الوليد وابن عمر فمما انقلب فيها لفظ الحديث ، وقد عارضها رواية الشك ورواية الجزم بأن المؤذن [ ص: 263 ] بليل هو بلال ، وهو الصواب بلا شك ، فإن ابن أم مكتوم كان ضرير البصر ، ولم يكن له علم بالفجر ; فكان إذا قيل له : " طلع الفجر " أذن ، وأما ما ادعاه بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأذان نوبا بين بلال وابن أم مكتوم ، وكان كل منهما في نوبته يؤذن بليل ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يأكلوا ويشربوا حتى يؤذن الآخر ; فهذا كلام باطل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يجئ في ذلك أثر قط ، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مرسل ولا متصل ، ولكن هذه طريقة من يجعل غلط الرواة شريعة ويحملها على السنة ، وخبر ابن مسعود وابن عمر وعائشة وسمرة الذي لم يختلف عليهم فيه أولى بالصحة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية