الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون

قوله تعالى : إنك ميت وإنهم ميتون وقرأ ابن محيصن وابن أبي عبلة وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق " إنك مائت وإنهم مائتون " وهي قراءة حسنة وبها قرأ عبد الله بن الزبير . النحاس : ومثل هذه الألف تحذف في الشواذ و " مائت " في المستقبل كثير في كلام العرب ، ومثله : ما كان مريضا وإنه لمارض من هذا الطعام . وقال الحسن والفراء والكسائي : الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت ، والميت بالتخفيف من فارقته الروح ، فلذلك لم تخفف هنا . قال قتادة : نعيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه ، ونعيت إليكم أنفسكم . وقال ثابت البناني : نعى رجل إلى صلة بن أشيم أخا له فوافقه يأكل ، فقال : ادن فكل فقد نعي إلي أخي منذ حين ، قال : وكيف وأنا أول من أتاك بالخبر . قال إن الله تعالى نعاه إلي فقال : إنك ميت وإنهم ميتون . وهو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبره بموته وموتهم ، فاحتمل خمسة أوجه :

[ أحدها ] أن يكون [ ص: 227 ] ذلك تحذيرا من الآخرة . [ الثاني ] أن يذكره حثا على العمل . [ الثالث ] أن يذكره توطئة للموت . [ الرابع ] لئلا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم في غيره ، حتى إن عمر - رضي الله عنه - لما أنكر موته احتج أبو بكر - رضي الله عنه - بهذه الآية فأمسك . [ الخامس ] ليعلمه أن الله تعالى قد سوى فيه بين خلقه مع تفاضلهم في غيره ، لتكثر فيه السلوة وتقل فيه الحسرة .

ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون يعني تخاصم الكافر والمؤمن والظالم والمظلوم ، قال ابن عباس وغيره . وفي خبر فيه طول : إن الخصومة تبلغ يوم القيامة إلى أن يحاج الروح الجسد . وقال الزبير : لما نزلت هذه الآية قلنا : يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؟ قال : نعم ، ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه . فقال الزبير : والله إن الأمر لشديد . وقال ابن عمر : لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين : ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون فقلنا : وكيف نختصم ونبينا واحد وديننا واحد ، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف ، فعرفت أنها فينا نزلت . وقال أبو سعيد الخدري : ( كنا نقول : ربنا واحد ، وديننا واحد ، ونبينا واحد ، فما هذه الخصومة ؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا : نعم هو هذا ) . وقال إبراهيم النخعي : لما نزلت هذه الآية جعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون : ما خصومتنا بيننا ؟ فلما قتل عثمان - رضي الله عنه - قالوا : هذه خصومتنا بيننا . وقيل : تخاصمهم هو تحاكمهم إلى الله تعالى ، فيستوفي من حسنات الظالم بقدر مظلمته ، ويردها في حسنات من وجبت له . وهذا عام في جميع المظالم كما في حديث أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . قال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار خرجه مسلم . وقد مضى المعنى مجودا في [ آل عمران ] وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم ، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه . وفي الحديث المسند : أول ما تقع الخصومات في الدنيا وقد ذكرنا هذا الباب كله في التذكرة مستوفى .

التالي السابق


الخدمات العلمية