الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 262 ] ذكر إيقاع عبد المؤمن بالعرب

لما فرغ عبد المؤمن من أمر المهدية وأراد العود إلى الغرب جمع أمراء العرب من بني رياح الذين كانوا بإفريقية ، وقال لهم : قد وجبت علينا نصرة الإسلام ، فإن المشركين قد استفحل أمرهم بالأندلس ، واستولوا على كثير من البلاد التي كانت بأيدي المسلمين ، وما يقاتلهم أحد مثلكم ، فبكم فتحت البلاد أول الإسلام ، وبكم يدفع عنها العدو الآن ، ونريد منكم عشرة آلاف فارس من أهل النجدة والشجاعة يجاهدون في سبيل الله ، فأجابوا بالسمع والطاعة ، فحلفهم على ذلك بالله تعالى ، وبالمصحف ، فحلفوا ، ومشوا معه إلى مضيق جبل زغوان .

وكان منهم إنسان يقال له يوسف بن مالك ، وهو من أمرائهم ورءوس القبائل فيها ، فجاء إلى عبد المؤمن بالليل وقال له سرا : إن العرب قد كرهت المسير إلى الأندلس ، وقالوا : ما غرضه إلا إخراجنا من بلادنا ، وإنهم لا يفون بما حلفوا عليه ، فقال : يأخذ الله ، عز وجل ، الغادر . فلما كانت الليلة الثانية هربوا إلى عشائرهم ، ودخلوا البر ، ولم يبق منهم إلا يوسف بن مالك ، فسماه عبد المؤمن يوسف الصادق .

ولم يحدث عبد المؤمن في أمرهم شيئا ، وسار مغربا يحث السير حتى قرب من القسنطينة ، فنزل في موضع مخصب يقال له : وادي النساء ، والفصل ربيع ، والكلأ مستحسن ، فأقام به ، وضبط الطرق ، فلا يسير من العسكر أحد ألبتة ، ودام ذلك عشرين يوما ، فبقي الناس في جميع البلاد لا يعرفون لهذا العسكر خبرا مع كثرته وعظمه ، ويقولون : ما أزعجه إلا خبر وصله من الأندلس ، فحث لأجله السير ، فعادت العرب الذين جفلوا منه من البرية إلى البلاد لما أمنوا جانبه ، وسكنوا البلاد التي ألفوها ، واستقروا في البلاد .

[ ص: 263 ] فلما علم عبد المؤمن برجوعهم جهز إليهم ولديه أبا محمد وأبا عبد الله في ثلاثين ألف مقاتل من أعيان الموحدين وشجعانهم ، فجدوا السير ، وقطعوا المفاوز ، فما شعر العرب إلا والجيش قد أقبل بغتة من ورائهم ، من جهة الصحراء ، ليمنعهم الدخول إن راموا ذلك .

وكانوا قد نزلوا جنوبا من القيروان عند جبل يقال له جبل القرن ، وهم زهاء ثمانين ألف بيت ، والمشاهير من مقدميهم : أبو محفوظ محرز بن زياد ، ومسعود بن زمام ، وجبارة بن كامل وغيرهم ، فلما أطلت عساكر عبد المؤمن عليهم اضطربوا ، واختلفت كلمتهم ، ففر مسعود وجبارة بن كامل ومن معهما من عشائرهما ، وثبت محرز بن زياد ، وأمرهم بالثبات والقتال ، فلم يلتفتوا إليه ، فثبت هو ومن معه من جمهور العرب ، فناجزهم الموحدون القتال في العشر الأوسط من ربيع الآخر من السنة ، وثبت الجمعان ، واشتد العراك بينهم وكثر القتل ، فاتفق أن محرز بن زياد قتل ، ورفع رأسه على رمح ، فانهزمت جموع العرب عند ذلك ، وأسلموا البيوت والحريم والأولاد والأموال ، وحمل جميع ذلك إلى عبد المؤمن وهو بذلك المنزل ، فأمر بحفظ النساء العربيات الصرائح ، وحملهن معه تحت الحفظ والبر والصيانة إلى بلاد الغرب ، وفعل معهن مثل ما فعل في حريم الأبثج .

ثم أقبلت إليه وفود رياح مهاجرين في طلب حريمهم كما فعل الأبثج ، فأجمل الصنيع لهم ، ورد الحريم إليهم ، فلم يبق منهم أحد إلا صار عنده ، وتحت حكمه ، وهو يخفض لهم الجناح ويبذل فيهم الإحسان ، ثم إنه جهزهم إلى ثغور الأندلس على الشرط الأول ، وجمعت عظام العرب المقتولين في هذه المعركة عند جبل القرن ، فبقيت دهرا طويلا كالتل العظيم يلوح للناظرين من مكان بعيد ، وبقيت إفريقية مع نواب عبد المؤمن آمنة ساكنة لم يبق فيها من أمراء العرب خارجا عن طاعته إلا مسعود بن زمام ، وطائفته في أطراف البلاد .

التالي السابق


الخدمات العلمية