الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم قال : قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض المراد بما في الصدور : ما في القلوب من الانشراح والميل للكفر أو الكره له والنفور منه ، فهو كقوله - تعالى - في الآية التي ذكرت آنفا : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا [ 16 : 106 ] إلخ ، أي أنه - سبحانه - يعلم ما تنطوي عليه نفوسكم وما تختلج به قلوبكم إذ توالون الكافرين أو توادونهم وإذ تتقون منهم ما تتقون ، فإن كان ذلك بميل إلى الكفر جازاكم عليه ، وإن كانت قلوبكم مطمئنة بالإيمان غفر لكم ولم يؤاخذكم على عمل لا جناية فيه على دينكم ولا إيذاء لأهله ، فهو يجازيكم على حسب علمه المحيط بما في السماوات والأرض ; لأنه الخالق لما في السماوات والأرض ألا يعلم من خلق [ 67 : 14 ] وهذا كالدليل على علمه بما في صدورهم ; لأنه عام ودليله ظاهر في النظام العام والله على كل شيء قدير فلا يمكن أن يتفلت من قدرته أحد ولا يعجزه شيء ، وهذا كالشرح لقوله : ويحذركم الله نفسه .

                          يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا قال الأستاذ الإمام ما معناه : الكلام تتمة لوعيد من يوالي الكافرين ناصرا إياهم على المؤمنين ، والمعنى : اتقوا واحذروا أو لتحذروا يوم تجد كل نفس عملها من الخير مهما قل محضرا ، ولا يجوز تقدير " اذكر " متعلقا لقوله : يوم تجد كما فعل ( الجلال ) . ومعنى كونه محضرا أن فائدته ومنفعته تكون حاضرة لديه ، وأما عمل السوء فتود كل نفس اقترفته لو بعد عنها ولم تره وتؤخذ بجزائه ، وهذا يدل على أن عمل الشر يكون محضرا أيضا ، ولكنه عبر عنه بما ذكر ليدل على أن إحضاره مؤذ لصاحبه يود لو لم يكن ; أي ومنه يعلم أن إحضار عمل الخير يكون غبطة لصاحبه وسرورا . وقال الأستاذ : إن هذا التعبير ضرب من التمثيل كالآيات التي فيها ذكر كتب الأعمال وأخذها بالأيمان والشمائل ، فإن الغرض من [ ص: 233 ] التعبير بأخذها باليمين أخذها بالقبول الحسن ، ومن أخذها بالشمال أو من وراء الظهر أخذها مع الكراهة والامتعاض .

                          أقول : وكيف لا تجد كل نفس ما عملت محضرا فتسر المحسنة وتنعم بما أحسنت ، وتبتئس المسيئة وتغم بما أساءت ، وتود لو كان بينها وبينه بعد المشرقين ، وهذه الأعمال مرسومة في صحائف هذه الأنفس وهي صفات لها ، وعن هذه الصفات صدرت تلك الحركات فزادت الصفات رسوخا والنقوش في النفس تمكنا ، حتى ارتقت بالمحسن إلى عليين ، حيث كتاب الأبرار ، وهبطت بالمسيء إلى سجين ، حيث كتاب الفجار . ويحذركم الله نفسه فإنه من ورائكم محيط ، وسنته في تأثير الأعمال في النفوس وجعل آثار أعمالها مصدرا لجزائها حاكمة عليكم ، أفلا يجب عليكم - والأمر كذلك - أن تحذروه بما أوتيتم من القدرة على الخير والميل إليه بترجيحه على ما يعرض على الفطرة من تزيين عمل السوء والتوبة إليه - سبحانه - مما غلبتم عليه في الماضي والله رءوف بالعباد ومن رأفته أن جعل الفطرة سليمة ميالة بطبعها إلى الخير ، وتتألم مما يعرض لها من الشر ، وأن جعل للإنسان أنواعا من الهدايات يرجح بها الخير على الشر كالعقل والدين ، وأن جعل جزاء الخير مضاعفا ، وأن جعل أثر الشر في النفس قابلا للمحو بالتوبة والعمل الصالح ، وأن أكثر التحذير من عاقبة السوء ليذكر الإنسان ولا ينسى ، لعله يتذكر أو يخشى .

                          ومن مباحث اللفظ في الآية : دخول الحرف المصدري على مثله في قوله - تعالى - : ( لو أن ) قال الأستاذ الإمام : وهو معروف في الكلام العربي الفصيح ، فلا حاجة إلى جعل الأصل فيه المنع وتأويل ما سمع منه . وقد اختلف في تفسير الأمد فقيل : الغاية ، وقيل : الأجل ، وقيل : المكان . وقال الراغب : الأمد والأبد يتقاربان ، لكن الأبد عبارة عن مدة من الزمان ليس لها حد محدود ولا يتقيد ، لا يقال : أبد كذا ، والأمد مدة لها حد مجهول إذا أطلق وقد ينحصر نحو أن يقال : أمد كذا كما يقال : زمان كذا . والفرق بين الزمان والأمد أن الأمد يقال باعتبار الغاية ، والزمان عام في المبدأ والغاية ; ولذلك قال بعضهم : المدى والأمد يتقاربان .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية