الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : إذ الأغلال في أعناقهم أي عن قريب يعلمون بطلان ما هم فيه إذا دخلوا النار وغلت أيديهم إلى أعناقهم . قال التيمي : لو أن غلا من أغلال جهنم وضع على جبل لوهصه حتى يبلغ الماء الأسود .

والسلاسل بالرفع قراءة العامة عطفا على الأغلال . قال أبو حاتم : يسحبون مستأنف على هذه القراءة . وقال غيره : هو في موضع نصب على الحال ، والتقدير : إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل مسحوبين . وقرأ ابن عباس وأبو الجوزاء وعكرمة وابن مسعود " والسلاسل " بالنصب " يسحبون " بفتح الياء ، والتقدير في هذه القراءة : ويسحبون السلاسل . قال ابن عباس : إذا كانوا يجرونها فهو أشد عليهم . وحكي عن بعضهم [ ص: 297 ] " والسلاسل " بالجر ، ووجهه أنه محمول على المعنى ; لأن المعنى : أعناقهم في الأغلال والسلاسل ، قاله الفراء . وقال الزجاج : ومن قرأ " والسلاسل يسحبون " بالخفض فالمعنى عنده وفي " السلاسل يسحبون " . قال ابن الأنباري : والخفض على هذا المعنى غير جائز ، لأنك إذا قلت : زيد في الدار ، لم يحسن أن تضمر " في " فتقول : زيد الدار ، ولكن الخفض جائز . على معنى : إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل ، فتخفض السلاسل على النسق على تأويل الأغلال ; لأن الأغلال في تأويل الخفض ، كما تقول : خاصم عبد الله زيدا العاقلين ، فتنصب العاقلين . ويجوز رفعهما ; لأن أحدهما إذا خاصم صاحبه فقد خاصمه صاحبه ، أنشد الفراء :


قد سالم الحيات منه القدما الأفعوان والشجاع الشجعما



فنصب الأفعوان على الإتباع للحيات إذا سالمت القدم فقد سالمتها القدم . فمن نصب السلاسل أو خفضها لم يقف عليها .

و الحميم المتناهي في الحر . وقيل : الصديد المغلي . ثم في النار يسجرون أي يطرحون فيها فيكونون وقودا لها ، قال مجاهد . يقال : سجرت التنور أي : أوقدته ، وسجرته ملأته ، ومنه والبحر المسجور أي : المملوء . فالمعنى على هذا : تملأ بهم النار ، وقال الشاعر يصف وعلا :


إذا شاء طالع مسجورة     ترى حولها النبع والسمسما



أي : عينا مملوءة .

ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله وهذا تقريع وتوبيخ . قالوا ضلوا عنا أي هلكوا وذهبوا عنا وتركونا في العذاب ، من ضل الماء في اللبن أي : خفي . وقيل : أي : صاروا بحيث لا نجدهم . بل لم نكن ندعو من قبل شيئا أي شيئا لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع . وليس هذا إنكارا لعبادة الأصنام ، بل هو اعتراف بأن عبادتهم الأصنام كانت باطلة ، قال الله تعالى : كذلك يضل الله الكافرين أي كما فعل بهؤلاء من الإضلال يفعل بكل كافر .

قوله تعالى : ذلكم أي ذلكم العذاب بما كنتم تفرحون بالمعاصي يقال لهم ذلك توبيخا . أي : إنما نالكم هذا بما كنتم تظهرون في الدنيا من السرور بالمعصية وكثرة المال والأتباع والصحة . وقيل : إن فرحهم بها عندهم أنهم قالوا للرسل : نحن نعلم أنا لا نبعث ولا نعذب . وكذا قال مجاهد في قوله - جل وعز - : فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وبما كنتم تمرحون قال مجاهد وغيره : أي : تبطرون وتأشرون . وقد مضى [ ص: 298 ] في [ سبحان ] بيانه . وقال الضحاك : الفرح السرور ، والمرح العدوان . وروى خالد عن ثور عن معاذ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله يبغض البذخين الفرحين ، ويحب كل قلب حزين ، ويبغض أهل بيت لحمين ، ويبغض كل حبر سمين فأما أهل بيت لحمين : فالذين يأكلون لحوم الناس بالغيبة . وأما الحبر السمين : فالمتحبر بعلمه ولا يخبر بعلمه الناس ، يعني المستكثر من علمه ولا ينتفع به الناس . ذكره الماوردي . وقد قيل في اللحمين : إنهم الذين يكثرون أكل اللحم ، ومنه قول عمر : اتقوا هذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر ، ذكره المهدوي . والأول قول سفيان الثوري .

ادخلوا أبواب جهنم أي يقال لهم ذلك اليوم ، وقد قال الله تعالى : لها سبعة أبواب فبئس مثوى المتكبرين تقدم جميعه .

قوله تعالى : فاصبر إن وعد الله حق هذا تسلية للنبي - عليه السلام - أي : إنا لننتقم لك منهم إما في حياتك أو في الآخرة . فإما نرينك في موضع جزم بالشرط ، وما زائدة للتوكيد وكذا النون ، وزال الجزم وبني الفعل على الفتح . أو نتوفينك عطف عليه فإلينا يرجعون الجواب .

قوله تعالى : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك عزاه أيضا بما لقيت الرسل من قبله . منهم من قصصنا عليك أي أنبأناك بأخبارهم وما لقوا من قومهم .

ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله أي من قبل نفسه إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله أي إذا جاء الوقت المسمى لعذابهم أهلكهم الله ، وإنما التأخير لإسلام من علم الله إسلامه منهم ، ولمن في أصلابهم من المؤمنين . وقيل : أشار بهذا إلى القتل ببدر . قضي بينهم بالحق وخسر هنالك المبطلون أي الذين يتبعون الباطل والشرك .

التالي السابق


الخدمات العلمية