الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قضى بنفقة غير الزوجة ) زاد الزيلعي والصغير ( ومضت مدة ) أي شهر فأكثر ( سقطت ) لحصول الاستغناء فيما مضى ، وأما ما دون شهر [ ص: 634 ] ونفقة الزوجة والصغير فتصير دينا بالقضاء ( إلا أن يستدين ) غير الزوجة ( بأمر قاض ) فلو لم يستدن بالفعل فلا رجوع ، بل في الذخيرة : لو أكل أطفاله من مسألة الناس فلا رجوع لأمهم ; ولو أعطوا شيئا واستدانت شيئا أو أنفقت من مالها رجعت بما زادت خانية [ ص: 635 ] ( وينفق منها ) عزاه في البحر للمبسوط ، لكن نظر فيه في النهر بأنه لا أثر لإنفاقه بما استدانه حتى لو استدان وأنفق من غيره ووفى مما استدانه لم تسقط أيضا . ا هـ . ( فلو مات الأب ) أو من عليه النفقة ( بعدها ) أي الاستدانة المذكورة ( فهي ) أي النفقة ( دين ) ثابت ( في تركته في الصحيح ) بحر ، ثم نقل عن البزازية تصحيح ما يخالفه ، ونقله المصنف عن الخلاصة قائلا : ولو لم ترجع حتى مات لم تأخذها من تركته هو الصحيح ا هـ ملخصا ، فتأمل .

وفي البدائع : الممتنع من نفقة القريب المحرم يضرب ولا يحبس لفواتها بمضي الزمن فيستدرك بالضرب ، - [ ص: 636 ] وقيده في النهر بحثا بما فوق الشهر لعدم سقوط ما دونه كما مر ، ولا يصح الأمر بالاستدانة ليرجع عليه بعد بلوغه .

التالي السابق


( قوله غير الزوجة ) يشمل الأصول والفروع والمحارم والمماليك ( قوله زاد الزيلعي والصغير ) يعني استثناه أيضا فلا تسقط نفقته المقتضى بها بمضي المدة كالزوجة ، بخلاف سائر الأقارب . ثم اعلم أن ما ذكره الزيلعي نقله عن الذخيرة عن الحاوي في الفتاوى ، وأقره عليه في البحر والنهر وتبعهم الشارح مع أنه مخالف لإطلاق المتون والشروح وكافي الحاكم .

مطلب في مواضع لا يضمن فيها المنفق إذا قصد الإصلاح وفي الهداية : ولو قضى القاضي للولد والوالدين وذوي الأرحام بالنفقة فمضت مدة سقطت ; لأن نفقة هؤلاء تجب كفاية للحاجة حتى لا تجب مع اليسار وقد حصلت بمضي المدة ، بخلاف نفقة الزوجة إذا قضى بها القاضي ; لأنها تجب مع يسارها فلا تسقط بحصول الاستغناء فيما مضى . ا هـ وقرر كلامه في فتح القدير . ولم يعرج على ما مر عن الذخيرة ، على أنه في الذخيرة صرح بخلافه وعزاه إلى الكتاب فإنه قال فيها قال أي في الكتاب ، وكذلك إن فرض القاضي النفقة على الأب فغاب الأب وتركهم بلا نفقة فاستدانت بأمر القاضي وأنفقت عليهم ترجع عليه بذلك ، فإن لم تستدن بعد الفرض وكانوا يأكلون من مسألة الناس لم ترجع على الأب بشيء ; لأنهم إذا سألوا وأعطوا صار ملكا لهم فوقع الاستغناء عن نفقة الأب ، واستحقاق هذه النفقة باعتبار الحاجة . فإن كانوا أعطوا مقدار نصف الكفاية سقط نصف الكفاية عن الأب ، وتصح الاستدانة في النصف بعد ذلك ، وعلى هذا القياس ، وليس هذا في حق الأولاد خاصة ، بل في نفقة جميع المحارم إذا أكلوا من مسألة الناس لا رجوع لهم ; لأن نفقة الأقارب لا تصير دينا بالقضاء بل تسقط بمضي المدة ، بخلاف نفقة الزوجة . ا هـ ومثله في شرح أدب القضاء للخصاف ، وذكر مثله قاضي خان جازما به ، وقد قال في أول كتابه : إن ما فيه أقوال اقتصرت فيه على قول أو قولين ، وقدمت ما هو الأظهر وافتتحت بما هو الأشهر . وقد راجع الرحمتي نسخة من الذخيرة محرفة حتى اشتبه عليه ما مر بمسألة الموت الآتية وحكم على الزيلعي ومن تبعه بالوهم ، وقال ; لأن مراد الحاوي أن نفقة الصغير لا تسقط بعد الاستدانة ، وأطال بما لا يجدي نفعا والصواب في الرد على الزيلعي ما قدمناه .

( قوله وأما ما دون شهر ) محترز قوله أي شهر فأكثر . [ ص: 634 ] ووجهه أن هذه المدة قصيرة وأن القاضي مأمور بالقضاء ، فلو سقطت المدة القصيرة لم يكن للأمر بالقضاء فائدة ; لأنه إذا كان كل ما مضى سقط لم يمكن استيفاء شيء كما في الفتح ( قوله ونفقة الزوجة والصغير ) محترز قوله غير الزوجة والصغير ، أما الصغير ففيه ما علمت ، وأما الزوجة فإنما تصير دينا بالقضاء ولا تسقط بمضي المدة ; لأن نفقتها لم تشرع لحاجتها كالأقارب بل لاحتباسها ، وقد علم من هذا أنها بعد القضاء لا تسقط بمضي المدة سواء كانت شهرا أو أكثر أو أقل ، نعم تسقط نفقتها بمضي المدة قبل القضاء إن كانت شهرا فأكثر كما قدمناه عند قول المصنف والنفقة لا تصير دينا إلا بالقضاء . والحاصل أن نفقة الزوجة قبل القضاء كنفقة الأقارب بعد القضاء في أنها تسقط بمضي المدة الطويلة .

( قوله غير الزوجة ) أما هي فترجع بما فرض لها ولو أكلت من مال نفسها أو من مسألة كما في الخانية وغيرها فاستدانتها بعد الفرض غير شرط ، نعم استدانتها للصغير شرط كما علمته مما مر ويأتي ( قوله فلو لم يستدن ) أفاد أن مجرد الأمر بالاستدانة لا يكفي ، وما فهمه بعضهم من عبارة الهداية فهو غلط كما نبه عليه في [ أنفع الوسائل ] ( قوله بل في الذخيرة ) هذا محل التفريع ، فكان المناسب أن يقول ففي الذخيرة إلخ ، وهذا أيضا فيما إذا فرض القاضي لهم النفقة وأمر الأم بالاستدانة كما علمته من كلام الذخيرة ، وأنت خبير بأن هذا مخالف لما قدمه عن الزيلعي من قوله والصغير كما نبهنا عليه آنفا فافهم ( قوله أو أنفقت من مالها ) هذا من كلام الخانية كما تعرفه ، وما قبله مذكور في الخانية أيضا ، وقوله رجعت بما زادت : أي بما استدانته أو أنفقته من مالها لتكميل نفقتها . وأفاد أن الإنفاق من مالها على الأولاد قائم مقام الاستدانة فهو تقييد لقوله فلو لم تستدن بالفعل فلا رجوع ، لكن هذا فهم لصاحب البحر وهو غير صحيح ، فإنه قال : وفي الخانية : رجل غاب ولم يترك لأولاده الصغار نفقة ولأمهم مال تجبر الأم على الإنفاق ثم ترجع بذلك على الزوج . ا هـ .

قال في البحر : ولم يشترط الاستدانة ولا الإذن بها ، فيفرق بين ما إذا أنفقت عليهم من مالها وبين ما إذا أكلوا من المسألة . ا هـ . قلت : لا يخفى عليك أن ما في الخانية من مسائل أمر الأبعد بالإنفاق عند غيبة الأقرب ، وهي كثيرة تقدمت في الفروع عن واقعات المفتين لقدري أفندي ، ففيها يأمر القاضي الأبعد ليرجع على الأقرب كالأم ليرجع على الأب فهو أمر بالإدانة ، ويحبس الممتنع عنها ; لأن هذا من المعروف كما قدمه عن الزيلعي والاختيار قبيل قول المصنف قضى بنفقة الإعسار ، فإذا كانت الأم موسرة تؤمر بالإدانة من مالها ، وإن كانت معسرة تؤمر بالاستدانة ، ففي كل منهما إذا أكل الأولاد من مسألة الناس سقطت نفقتهم عن أبيهم لحصول الاستغناء فلا ترجع الأم بشيء في الصورتين . وأما إذا أمرت بالاستدانة ولم تستدن بل أنفقت من مالها فلا رجوع لها أيضا ، بمنزلة ما إذا أكلوا من المسألة ; لأنها لم تفعل ما أمرها به القاضي القائم مقام الغائب ، ولذا صرحوا باشتراط الاستدانة بالفعل ولم يكف مجرد الأمر بها ، خلافا لمن غلط فيه كما قدمناه عن أنفع الوسائل .

ويدل على أن إنفاقها لا يقوم مقام الاستدانة ما صرح به في البزازية بقوله : وإن أنفقت عليه من مالها أو من مسألة الناس لا ترجع على الأب وكذا في نفقة المحارم . ا هـ فهذا صريح فيما قلناه ، وأشار إلى بعضه المقدسي والخير الرملي فافهم ، نعم لو أمرت بالإنفاق وهي موسرة فاستدانت وأنفقت منه ترجع ; لأن ما استدان دين عليها لا على الأب ; لأنه لا يصير دينا على [ ص: 635 ] الأب إلا بالأمر بالاستدانة عليه لعموم ولاية القاضي ، فإذا كان دينا عليها صار من مالها فلا فرق بين الإنفاق منه أو من مال آخر ، بخلاف ما إذا أمرت بالاستدانة وأنفقت من مالها فإنها تكون متبرعة ، فاغتنم تحرير هذا المقام ( قوله وينفق منها ) الأولى منه : أي مما استدانه ( قوله لكن نظر فيه في النهر إلخ ) قد يجاب عن البحر بأن المراد من قوله وينفق مما استدانه تحقيق الاستدانة ، فهو للاحتراز عما إذا لم يستدن وأنفق من ماله أو من صدقة ، ولذا قال في البحر بعد ذكر هذا الشرط قال في المبسوط : فلو أنفق بعد الإذن بالاستدانة من ماله أو من صدقة فلا رجوع له لعدم الحاجة .

وحينئذ فلا خلاف وسقط التنظير ، أفاده ط . وحاصله أن الإنفاق مما استدانه غير شرط ، لكن قال الرحمتي : لو أنفق من غيره . فإما أن يكون من ماله فلا يستحق نفقة لغناه به أو من مال غيره فهو استدانة ويصدق أنه أنفق مما استدانه . لكن صاحب النهر مولع بالاعتراض على أخيه في غير محله . ا هـ . قلت : لكن هذا ظاهر إذا كان قبل الاستدانة ، أما بعد أن استدان وصار ما استدانه دينا على المقضي عليه ثم تصدق عليه بشيء فهل تسقط نفقته عن قريبه ; لأنها تجب كفاية للحاجة ، وقد حصلت بما صار معه من الصدقة فليس له أن ينفق مما استدانه حتى ينفق ما معه ، ولذا لو دفع له القريب نفقة شهر قضى الشهر وبقي معه شيء لم يقض له بأخرى ما لم ينفق ما بقي ، أم لا تسقط لكون ما استدانه صار ملكه ، ولذا لو عجل له نفقة مدة فمات أحدهما قبل تمام المدة لا يسترد شيء منها اتفاقا كما في البدائع .

ونظيره ما مر في موت الزوجة أو طلاقها ، فما استدانه في حكم المعجل فيما يظهر ، فحيث ملكه فله أن ينفق منه أو من الصدقة ، لكن ليس له الاستدانة ثانيا ما لم يفرغ جميع ما معه لتتحقق الحاجة . فالحاصل أنه إذا استدان بأمر قاض صار ملكه ; ولذا لو مات القريب بعدها يؤخذ من تركته ولا يسقط بالموت ، فلا فرق حينئذ بين أن ينفق منه أو مما ملكه بعد الاستدانة بصدقة أو غيرها ، هذا ما ظهر لفهمي القاصر فتأمله .

( قوله أو من عليه النفقة ) أي من بقية الأقارب فالأب غير قيد ( قوله دين ثابت في تركته ) فللأم أن تأخذها من تركته ذخيرة ( قوله فتأمل ) أي عند الفتوى ما هو الأولى من هذين القولين المصححين . قلت : لكن نقل الثاني في الذخيرة عن الخصاف الأول عن الأصل . قال الخير الرملي : وأنت على علم بأن تصحيح الخصاف لا يصادم تصحيح الأصل مع ما فيه من الإضرار بالنساء ، فينبغي أن يعول عليه . ا هـ أي على ما في الأصل للإمام محمد .

وفي شرح المقدسي : ولو مات من عليه النفقة المستدانة بإذن لم تسقط في الصحيح فتؤخذ من تركته وإن صحح في الخلاصة خلافه . ا هـ . ووفق ط بين القولين بما لا يظهر ، وعزا ما في المتن إلى الكنز والوقاية والإيضاح مع أنه غير الواقع ، فإن مسألة الموت مما زادها المصنف على المتون تبعا لشيخه صاحب البحر فافهم .

( قوله وفي البدائع إلخ ) تبع في النقل عنها صاحب البحر والنهر . والذي رأيته في البدائع عكس ذلك ، فإنه قال ويحبس في نفقة الأقارب كالزوجات ، أما غير الأب فلا شك فيه ، وأما الأب فلأن في النفقة ضرورة [ ص: 636 ] دفع الهلاك عن الولد ولأنها تسقط بمضي الزمان ، فلو لم يحبس سقط حق الولد رأسا فكان في حبسه دفع الهلاك واستدراك الحق عن الفوات ; لأن حبسه يحمله على الأداء ، وهذا لم يوجد في سائر ديون الولد ; لأنها لا تفوت ، ولهذا قال أصحابنا : إن الممتنع من القسم يضرب ولا يحبس ، بخلاف سائر الحقوق ; لأنه لا يمكن استدراك هذا الحق بالحبس ; لأنه يفوت بمضي الزمان فيستدرك بالضرب ، بخلاف سائر الحقوق .

ا هـ ملخصا . وبه علم أن ما ذكره هو حكم الممتنع عن القسم بين الزوجات ، وقدمنا عن الذخيرة لا يحبس والد وإن علا في دين ولده وإن سفل إلا في النفقة ; لأن فيه إتلاف الصغير وسيأتي في فصل الحبس التصريح بذلك . وفي الكنز : لا يحبس في دين ولده إلا إذا أبى عن الإنفاق عليه ، وذكر المصنف هنا مثله وعلى هذا فلا يصح أن يقال إنه يمكن أن يستدين بأمر القاضي فلا يلزم المحذور ; لأن الكلام في الممتنع من الإنفاق وهو شامل للإنفاق بالاستدانة فحبس لينفق من ماله أو ليستدين فافهم . وقول البدائع : فلو لم يحبس سقط حق الولد رأسا أي كله ، بخلاف ما إذا حبس فإنه إنما يسقط حقه في مدة الحبس فقط . وفي هذا دليل على أن الصغير ليس في حكم الزوجة خلافا لما مر عن الزيلعي : لو كان في حكمها لكان يمكن القاضي أن يقضي عليه بالنفقة فلا يسقط منها شيء كسائر ديون الصغير .

( قوله وقيده ) أي قيد عدم الحبس في نفقة القريب ، وهذا مبني على النقل الخطأ ، أما على الصواب الذي نقلناه فلا تقييد ثم قوله بما فوق الشهر حقه كما في ط أن يقال بالشهر فما فوقه ; لأن الذي لا يسقط هو القليل وهو ما دون شهر كما مر ( قوله ولا يصح الأمر إلخ ) في التتارخانية : امرأة لها ابن صغير لا مال له ولا للمرأة فاستدانت وأنفقت على الصغير بأمر القاضي فبلغ لا ترجع عليه بذلك . ا هـ أي أمرها القاضي بأن تستدين وترجع عليه بعد بلوغه كما في البزازية . قال في المنح : فقد أفاد أنه يملك الأمر بالاستدانة إلا إذا كان للصغير مال أو كان هناك من تجب نفقته عليه ( قوله النفقة ) أي على المولى ولو فقيرا قهستاني .




الخدمات العلمية