الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  بيان مشارطة النفس

                                                                  إذا أصبح العبد وفرغ من فريضة الصبح ينبغي أن يفرغ قلبه لمشارطة النفس فيقول لها : [ ص: 306 ] ما لي بضاعة إلا العمر ، ومهما فني فقد فني رأس المال ووقع اليأس عن التجارة وطلب الربح ، وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه وأنسأ في أجلي وأنعم علي به ، ولو توفاني لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا يوما واحدا حتى أعمل فيه صالحا ، فاحسبي أنك قد توفيت ثم قد رددت فإياك ثم إياك أن تضيعي هذا اليوم ، فإن كل نفس من الأنفاس جوهرة لا قيمة ، لها فلا تميلي إلى الكسل والدعة والاستراحة فيفوتك من درجات عليين ما يدركه غيرك وتبقى عندك حسرة لا تفارقك ، وإن دخلت الجنة فألم الغبن وحسرته لا يطاق ، وقد قال بعضهم : " هب أن المسيء قد عفي عنه أليس قد فاته ثواب المحسنين " أشار به إلى الغبن والحسرة ، وقال الله تعالى : ( يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ) [ التغابن : 9 ] فهذه وصيته لنفسه في أوقاته . ثم ليستأنف لها وصية في أعضائه السبعة وهي : العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل ، فيوصيها بحفظها عن معاصيها .

                                                                  أما العين : فيحفظها عن النظر إلى وجه من ليس له بمحرم أو إلى عورة مسلم أو النظر إلى مسلم بعين الاحتقار ، ثم إذا صرفها عن هذا لم يقنع به حتى يشغلها بما فيه تجارتها وربحها وهو ما خلقت له من النظر إلى عجائب صنع الله بعين الاعتبار ، والنظر إلى أعمال الخير للاقتداء ، والنظر في كتاب الله وسنة رسوله ، ومطالعة كتب الحكمة للاتعاظ والاستفادة .

                                                                  وهكذا ينبغي أن يفصل الأمر عليها في عضو عضو لا سيما اللسان والبطن .

                                                                  أما اللسان : فلأنه منطلق بالطبع ولا مؤونة عليه في الحركة ، وجنايته عظيمة بالغيبة ، والكذب ، والنميمة ، وتزكية النفس ، ومذمة الخلق ، والأطعمة ، واللعن ، والدعاء على الأعداء ، والمماراة في الكلام ، وغير ذلك مما ذكرناه في كتاب آفات اللسان ، فهو بصدد ذلك كله مع أنه خلق للذكر والتذكير ، وتكرار العلم والتعليم ، وإرشاد عبد الله إلى طريق الله ، وإصلاح ذات البين ، وسائر خيراته .

                                                                  وأما البطن : فيكلفه ترك الشره وتقليل الأكل من الحلال واجتناب الشبهات ، ويمنعه من الشهوات . وهكذا يشرط عليها في جميع الأعضاء ، واستقصاء ذلك يطول ، ولا تخفى معاصي الأعضاء وطاعتها ، ثم يستأنف وصيتها في وظائف الطاعات التي تتكرر عليه في اليوم والليلة وكيفية الاستعداد لها بأسبابها ، وكذا فيمن يشتغل بشيء من أعمال الدنيا من ولاية أو تجارة أو تدريس ، قلما يخلو يوم عن مهم جديد وواقعة جديدة يحتاج إلى أن يقضي حق الله فيها ، فعليه أن يشترط على نفسه الاستقامة فيها والانقياد للحق في مجاريها ، ويحذرها مغبة الإهمال ، ويعظها كما يوعظ العبد الآبق المتمرد ، فإن النفس بالطبع متمردة عن الطاعات مستعصية عن العبودية ، ولكن الوعظ والتأديب يؤثر فيها : ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) [ الذاريات : 55 ] .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية