الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  6878 79 - حدثنا عبدان ، أخبرنا أبو حمزة ، سمعت الأعمش قال : سألت أبا وائل : هل شهدت صفين ؟ قال : نعم ، فسمعت سهل بن حنيف يقول . ح وحدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن الأعمش ، عن أبي وائل قال : قال سهل بن حنيف : يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم ، لقد [ ص: 45 ] رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته ، وما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه غير هذا الأمر ، قال : وقال أبو وائل : شهدت صفين وبئست صفون .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " اتهموا رأيكم على دينكم " قال الكرماني وذلك أن سهلا كان يتهم بالتقصير في القتال في صفين ، فقال : اتهموا رأيكم فإني لا أقصر ، وما كنت مقصرا وقت الحاجة كما في يوم الحديبية ، فإني رأيت نفسي يومئذ لو قدرت على مخالفة حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلت قتالا لا مزيد عليه لكني أتوقف اليوم لمصالح المسلمين انتهى ، وقال بعضهم : قوله : " اتهموا رأيكم على دينكم " أي لا تعملوا في أمر الدين بالرأي المجرد الذي لا يستند إلى أصل من الدين انتهى ، قلت : ما قاله الكرماني أقرب إلى معنى التركيب ، وما قاله غيره أقرب إلى الترجمة .

                                                                                                                                                                                  وأخرج الحديث المذكور من طريقين ، الأول : عن عبدان ، لقب عبد الله بن عثمان ، عن أبي حمزة بالحاء المهملة والزاي محمد بن ميمون السكري ، عن سليمان الأعمش ، عن أبي وائل شقيق بن سلمة ، عن سهل بن حنيف بضم الحاء المهملة وفتح النون ، والطريق الثاني : عن موسى بن إسماعيل ، عن أبي عوانة بفتح العين المهملة الوضاح اليشكري ، عن سليمان الأعمش إلى آخره ، والحديث مر في كتاب الجزية في باب مجرد بعد باب إثم من عاهد ثم غدر فإنه أخرجه هناك عن عبدان ، عن أبي حمزة ، عن الأعمش ، ومضى أيضا في غزوة الحديبية .

                                                                                                                                                                                  قوله : " هل شهدت صفين " أي هل حضرت وقعة صفين التي كانت بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، وصفين بكسر الصاد المهملة وتشديد الفاء المكسورة وسكون الياء آخر الحروف وبالنون وهو موضع بين الشام والعراق بشاطئ الفرات ، قوله : " اتهموا رأيكم " مر تفسيره الآن ، قوله : " لقد رأيتني " أي لقد رأيت نفسي يوم أبي جندل ، وهو يوم من أيام غزوة الحديبية ، وقصتها مختصرة أنها كانت في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها في رمضان وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه ، ومعه المهاجرون والأنصار ، وكان الهدي سبعين بدنة والناس سبعمائة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة نفر ، ولما بلغ الخبر قريشا خرجوا ونزلوا بذي طوى وعاهدوا الله أن محمدا لا يدخلها أبدا ثم إن بديل بن ورقاء أتى النبي صلى الله عليه وسلم في رجال من خزاعة فسألوه ما الذي جاء به ، فأخبرهم أنه لم يأت للحرب بل زائرا للبيت ، ورجعوا إلى قريش فأخبروهم به ثم جرى أمور كثيرة من مراسلات وغيرها إلى أن بعثت قريش سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمصالحة وأن يرجع عامه هذا ، وجرى كلام كثير حتى جرى الصلح على وضع الحرب عشر سنين على أن من أتى من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد قد انفلت منهم ، ولما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه وقال : يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا ، قال : صدقت ، فجعل يجر أبا جندل ليرده إلى قريش ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني ، فزاد الناس ذلك هما إلى همهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين بمكة فرجا ومخرجا ، ولما فرغ الصلح قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى هديه فنحره وحلق رأسه ، وقام الصحابة كلهم ينحرون ويحلقون رؤوسهم ، ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، قوله : " ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته " قد ذكرنا أنهم لما اتهموا سهل بن حنيف بالتقصير في القتال في قصة صفين صعب عليه وقال لهم : أنا لست بمقصر في القتال وقت الحاجة ، ولما جاء أبو جندل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما فرده إلى المشركين لأجل الصلح المذكور بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم صعب على سهل ذلك جدا ، فقال لهم حين اتهموه بالتقصير في القتال : لو كنت أستطيع رد أبي جندل لرددته ولكني قصرت لأجل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أمر برده ، ولم يكن يسعني أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الكرماني : لم نسب اليوم إلى أبي جندل لا إلى الحديبية ؟ قلت : لأن رده إلى المشركين كان شاقا على المسلمين ، وكان ذلك أعظم ما جرى عليهم من سائر [ ص: 46 ] الأمور وأرادوا القتال بسببه وأن لا يردوا أبا جندل ولا يرضون بالصلح ، قوله : " وما وضعنا سيوفنا على عواتقنا " جمع عاتق ، قوله : " إلى أمر يفظعنا " بضم الياء وسكون الفاء وكسر الظاء المعجمة أي يخوفنا ويهولنا ، قاله الكرماني ، وقال ابن الأثير : أي يوقعنا في أمر فظيع أي شديد شنيع ، وقد فظع يفظع فهو مفظع ، وفظع الأمر فهو فظيع ، وقال الجوهري : وأفظع الرجل على ما لم يسم فاعله أي نزل به أمر عظيم ، وأفظعت الشيء واستفظعته وجدته فظيعا ، قوله : " إلا أسهلن بنا " أي أفضين بنا إلى سهولة ، يعني السيوف أفضين بنا إلى أمر سهل نعرفه خبرا غير هذا الأمر أي الذي نحن فيه من هذه المقاتلة في صفين ، فإنه لا يسهل بنا ، وفي رواية الكشميهني بها وقال بعضهم إلا أسهلن أي أنزلننا في السهل من الأرض أي أفضين بنا ، وهو كناية عن التحول من الشدة إلى الفرج ، قلت : هذا معنى بعيد على ما لا يخفى على المتأمل .

                                                                                                                                                                                  قوله : " قال : وقال أبو وائل " أي قال الأعمش : قال أبو وائل المذكور ، شهدت صفين وبئست صفون ، أي بئست المقاتلة التي وقعت فيها ، وإعراب هذا اللفظ كإعراب الجمع كقوله تعالى : كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون والمشهور أن يعرب بالنون ويكون بالياء في الأحوال الثلاث ، تقول : هذه صفين برفع النون ، ورأيت صفين ومررت بصفين بفتح النون فيهما ، وكذلك تقول في قنسرين وفلسطين ونبرين ، والحاصل أن فيها لغتين : إحداهما إجراء الإعراب على ما قبل النون وتركها مفتوحة كجمع السلامة ، والثانية أن يجعل النون حرف الإعراب كما ذكرنا ، ووقع في رواية أبي ذر " شهدت صفين وبئست صفين " وفي رواية النسفي " وبئست الصفون " بالألف واللام ، وهو لا ينصرف للعلمية والتأنيث ، والمشهور كسر الصاد ، وقيل جاء بفتحها أيضا .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية