الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ التسليم من الصلاة مرة أومرتين ] : المثال السادس والخمسون : رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 272 ] التي رواها عنه خمسة عشر نفسا من الصحابة : { أنه كان يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره : السلام عليكم ورحمة الله ، السلام عليكم ورحمة الله } منهم عبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وجابر بن سمرة وأبو موسى الأشعري وعمار بن ياسر وعبد الله بن عمر والبراء بن عازب ووائل بن حجر وأبو مالك الأشعري وعدي بن عميرة الضمري وطلق بن علي وأوس بن أوس وأبو رمثة ، والأحاديث بذلك ما بين صحيح وحسن ، فرد ذلك بخمسة أحاديث مختلف في صحتها ; أحدها : حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان يسلم تسليمة واحدة } رواه الترمذي ، والثاني : حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد عن عامر بن سعد عن سعد { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان يسلم في آخر الصلاة تسليمة واحدة : السلام عليكم } الثالث : حديث عبد المهيمن بن عباس عن أبيه عن جده : { أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم تسليمة واحدة لا يزيد عليها } رواه الدارقطني ، الرابع : حديث عطاء بن أبي ميمونة عن أبيه عن الحسن عن سمرة بن جندب : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم مرة واحدة في الصلاة قبل وجهه ; فإذا سلم عن يمينه سلم عن يساره } رواه الدارقطني ، الخامس : حديث يحيى بن راشد عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع قال : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم مرة واحدة } . وهذه الأحاديث لا تقاوم تلك ولا تقاربها حتى تعارض بها . أما حديث عائشة فحديث معلول باتفاق أهل العلم بالحديث .

قال البخاري : زهير بن محمد من أهل الشام يروي مناكير ، وقال يحيى : ضعيف ، والحديث من رواية عمرو بن أبي سلمة عنه .

قال الطحاوي : هو وإن كان ثقة فإن رواية عمرو بن أبي سلمة عنه تضعف جدا . وهكذا قال يحيى بن معين فيما حكى لي عنه غير واحد من أصحابنا منهم علي بن عبد الرحمن بن المغيرة ، وزعم أن فيها تخليطا كثيرا قال : والحديث أصله موقوف على عائشة ، هكذا رواه الحافظ

. فإن قيل : فإذا ثبت ذلك عن عائشة فبمن نعارضها في ذلك من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قيل له : بأبي بكر وعمر وعلي بن أبي طالب عليهم السلام وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وسهل بن سعد الساعدي ، وذكر الأسانيد عنهم بذلك ، ثم قال : فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعمار ومن ذكرنا معهم يسلمون عن أيمانهم وعن شمائلهم ، ولا ينكر ذلك عليهم غيرهم ، على قرب عهدهم برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحفظهم لأفعاله ، فما ينبغي لأحد خلافه لو لم يكن روى في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف وقد روى عنه ما يوافق فعلهم ؟ [ ص: 273 ] وأما حديث سعد بن أبي وقاص فحديث معلول ، بل باطل ، والدليل على بطلانه أن الذي رواه هكذا الدراوردي خاصة ، وقد خالف في ذلك جميع من رواه عن مصعب بن ثابت كعبد الله بن المبارك ومحمد بن عمرو ، ثم قد رواه إسماعيل بن محمد عن عامر بن سعد عن سعد كما رواه الناس .

{ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه حتى يرى بياض خده ، وعن يساره حتى يرى بياض خده } رواه مسلم في صحيحه ; فقد صح رواية سعد { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم تسليمتين } ومعه من ذكرنا من الصحابة ، وبان بذلك بطلان رواية الدراوردي . وأما حديث عبد المهيمن بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده فقال الدارقطني : عبد المهيمن ليس بالقوي ، وقال ابن حبان : بطل الاحتجاج به . وأما حديث عطاء بن أبي ميمونة عن أبيه عن الحسن فمن رواية روح ابنه عنه .

قال الإمام أحمد : منكر الحديث ، وتركه يحيى . وأما حديث يحيى بن راشد عن يزيد مولى سلمة فقال يحيى بن معين : يحيى بن راشد ليس بشيء ، وقال النسائي : ضعيف

، وقال أبو عمر بن عبد البر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { كان يسلم تسليمة واحدة } من حديث سعد بن أبي وقاص ، ومن حديث عائشة ، ومن حديث أنس ، إلا أنها معلولة لا يصححها أهل العلم بالحديث ; لأن حديث سعد أخطأ فيه الدراوردي ، فرواه على غير ما رواه الناس بتسليمة واحدة ، وغيره يروي فيه بتسليمتين ، ثم ذكر حديثه عن مصعب بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة } ثم قال : وهذا وهم عندهم وغلط ، وإنما الحديث كما رواه ابن المبارك وغيره عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه { كان يسلم عن يمينه وعن يساره } وقد روي هذا الحديث بالتسليمتين من طريق مصعب ، ثم ساق طرقه بالتسليمتين عن سعد ، ثم ساق من طريق ابن المبارك عن مصعب عن إسماعيل بن محمد عن عامر بن سعد عن أبيه قال : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن شماله ، وكأني أنظر إلى صفحة خده } فقال الزهري : ما سمعنا هذا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له إسماعيل بن محمد : أكل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت ؟ قال : لا ، قال : فنصفه ؟ قال : لا ، قال : فاجعل هذا في النصف الذي لم تسمع قال : وأما حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يسلم تسليمة واحدة } فلم يرفعه أحد إلا زهير بن محمد وحده عن هشام بن عروة ، رواه عنه عمرو بن أبي سلمة ، [ ص: 274 ] وزهير بن محمد ضعيف عند الجميع كثير الخطأ لا يحتج به ، وذكر يحيى بن معين هذا الحديث فقال : عمرو بن أبي سلمة وزهير ضعيفان لا حجة فيهما .

وأما حديث أنس فلم يأت إلا من طريق أيوب السختياني عن أنس ، ولم يسمع أيوب من أنس عندهم شيئا . قال : وقد روي عن الحسن مرسلا { أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يسلمون تسليمة واحدة } ذكره وكيع عن الربيع عنه ، قال : والعمل المشهور بالمدينة التسليمة الواحدة ، وهو عمل قد توارثه أهل المدينة كابرا عن كابر ، ومثله يصح فيه الاحتجاج بالعمل في كل بلد ، لأنه لا يخفى ; لوقوعه في كل يوم مرارا .

التالي السابق


الخدمات العلمية