الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام

الهروي - أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي

[ ص: 286 ] باب : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنسخ لتركهما بالإيجاب والتغليظ

قال أبو عبيد : أما هذا الباب فلم نجد في القرآن كله آية واحدة جمعت الناسخ والمنسوخ غيرها وهو قوله : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فإن تأويلها جاء في بعض الأثر أن الآية كانت مرجاة غير معمول بها في أول الدهر إلى أوقات من الزمان موصوفة فإذا بلغها الناس أتاهم حينئذ أوان استعمالها والأخذ بها ثم جاءت أحاديث أخر بأن الآية محكمة يجب على الناس العمل بها إلا أنها على خلاف ما يتأولها العامة . فأما الوجه الأول :

524 - فإن هشام بن عمار حدثنا ، عن صدقة بن خالد ، عن عتبة بن أبي حكيم ، قال : حدثني عمر بن جارية ، عن أبي أمية الشعباني ، قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني ، فقلت : كيف أصنع بهذه الآية : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم الآية ، فقال : سألت رسول الله عنها ، فقال : " ائتمروا بالمعروف وتناهوا

[ ص: 287 ] عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، ورأيت أمرا لا يدان لك به ، أو قال : لا يد لك به فعليك نفسك ودع العوام ، فإن من ورائكم أياما ، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله


525 - أخبرنا علي قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا أبو مسهر ، عن عباد الخواص ، قال : حدثنا يحيى بن أبي عمرو السيباني ، أن أبا الدرداء وكعبا ، كانا جالسين بالجابية ، فأتاهما آت ، فقال : لقد رأيت اليوم أمرا إن

[ ص: 288 ] كان لحقا على من رآه أن يغيره ، فقال رجل : إن الله يقول : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم الآية ، فقال كعب : إن هذا لا يقول شيئا ، ذب عن محارم الله كما تذب عن عينيك حتى يأتي تأويلها ، قال : فانتبه لها أبو الدرداء ، فقال : متى يأتي تأويلها ؟ قال : " إذا هدمت كنيسة دمشق وبني مكانها مسجد ، فذاك من تأويلها ، وإذا رأيت الكاسيات العاريات ، فذلك من تأويلها . وذكر خصلة ثالثة لا أحفظها ذلك من تأويلها ، قال أبو مسهر : وكان هدم الكنيسة بعهد الوليد بن عبد الملك ، أدخلها في مسجد دمشق ، فزاد في سعته بها " قال أبو عبيد : "

وقد أروني مكانها هناك والناحية التي كانت بها قبل الهدم

526 - أخبرنا علي قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن عبد الله بن مسعود ، أنه ذكرت عنده هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم فقال : " لم يجئ تأويل هذه بعد ، إن القرآن أنزل حين أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ، وكان منه آي قد وقع تأويلهن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 289 ] وكان منه آي وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير ، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم ، ومنه آي يقع تأويلهن عند الساعة ، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب بين الجنة والنار ، فأما ما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ، ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض ، فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فاجروا وتقدموا ، عند ذلك جاء تأويل هذه الآية

527 - أخبرنا علي قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن ، عن ابن مسعود في هذه الآية ، قال : " قولوها ما قبلت منكم ، فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم .

قال أبو عبيد : " فهذا تأويل من جعل الآية وقتين ، وأما الوجه الآخر

528 - فإن محمد بن يزيد الواسطي حدثنا ، عن إسماعيل ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : سمعت أبا بكر ، على المنبر يقول : إني أراكم تأولون هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الناس إذا عمل فيهم بالمعاصي ، فلم يغيروا يوشك أن يعمهم الله بعقابه .

[ ص: 290 ] قال أبو عبيد : " لم يذهب أبو بكر في احتجاجه بالحديث مع ذكر الآية إلى أن يعارض القرآن بشيء يكون حجة على التنزيل ، فهذا ما لا يظن مثله بالصديق ، ولكنا نراه خاف أن يتأول الناس الآية غير متأولها ، فيدعوهم ذلك إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فأراد أن يعلمهم أنها ليست كذلك وأنه لو كان وجهها هذا الذي ذهبوا إليه ما تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافها ، وقد روينا عن سعيد بن جبير ، ومجاهد شيئا كأنه تفسير لحديث أبي بكر " .

529 - أخبرنا علي قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في هذه الآية قال : " من اليهود والنصارى ومن ضل من غيرهم "

قال أبو عبيد : " أحسبهما أرادا أن الذي أذن الله في إقراره والإمساك عن تغييره من المنكر أن يكرهوا بشرك على أن شرط لهم ذلك الإقرار شرطا مؤكدا وبه حلت جزيتهم للمسلمين ، فأما الفسوق والعصيان والريب من أهل الإسلام ، فلا يدخل في هذه الآية ، فهذا الذي نرى سعيد بن جبير ومجاهدا عنياه بتفسيرهما ، ولا ينبغي أن يكون وجه حديث أبي بكر إلا هذا المذهب ؛ لأنه ليس في حديثه وقت من الزمان يمكن الرخصة فيه لترك الأمر والنهي فيه كالأحاديث الأول ، فصار أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أهل المعاصي من المسلمين واجبا على الأبد ، وكذلك وجدنا أكثر الحديث بلا توقيت

[ ص: 291 ]

530 - أخبرنا علي قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهل ، عن حذيفة بن اليمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله بعقاب من عنده ، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم

531 - أخبرنا علي قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا يزيد ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن المنذر بن جرير ، عن أبيه جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من قوم يكون بين ظهريهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع ، فلم يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب

532 - أخبرنا علي قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا يحيى بن سعيد ، [ ص: 292 ] عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، قال : " إن للإسلام صوى .

قال أبو عبيد : الصوى : الأعلام ومنارا كمنار الطريق فمنها : أن يؤمن بالله لا يشرك به شيئا وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تسلم على أهلك إذا دخلت إليهم وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم فمن ترك من ذلك شيئا ، فقد ترك سهما من الإسلام ، ومن تركهن فقد ولى الإسلام ظهره " ، قال يحيى : قال ثور : حدثنيه رجل ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رجل ليحيى : إن عيسى بن يونس يحدثه ، عن ثور ، عن خالد بن معدان ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنكر ذلك يحيى ورده

[ ص: 293 ]

533 - أخبرنا علي قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا حجاج ، عن حمزة الزيات ، عن أبي سفيان ، عن أبي نضرة قال : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب ، فقال : إني أعمل بأعمال البر كلها إلا خصلتين قال : وما هما ؟ قال : لا آمر ولا أنهى قال : " لقد طمست سهمين من سهام الإسلام إن شاء الله غفر لك ، وإن شاء عذبك

534 - أخبرنا علي قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا محمد بن يزيد ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فريضتان من فرائض الله كتبهما الله .

قال أبو عبيد : " فأرى الضحاك إنما تأول بالفرائض هذه الآية : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فصار قوله : ولتكن منكم أمة تفعل ذلك عزما ، وقد تأول مجاهد في توكيدهما وجها آخر من اشتراطهما "

[ ص: 294 ]

535 - أخبرنا علي قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله فقال علي : " هذا الشرط على أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله .

قال أبو عبيد : " وقد كان ابن شبرمة حد في العدد الذي يوجب الأمر والنهي حدا

536 - قال أبو عبيد : أخبروني عن ابن عيينة قال : حدثت ابن شبرمة ، بحديث ابن عباس : " من فر من اثنين فقد فر ، ومن فر من ثلاثة فلم يفر ، فقال ابن شبرمة : أما أنا " فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا لا يعجز الرجل عن اثنين أن يأمرهما وينهاهما " .

قال أبو عبيد : " ولا أعلم هذا يوجد فيه أصل أحسن من الذي ذهب إليه ابن شبرمة على أن ابن عباس أيضا إنما ذهب في الجهاد إلى أصل في القرآن وهو قوله : " فإن يكن منكم مائة صابرة إلى قوله : والله مع الصابرين

التالي السابق


الخدمات العلمية