الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( الثالثة ) : اختلف العلماء في رؤية خاتم الأنبياء لربه إله الأرض والسماء في ليلة المعراج التي هي في حقه - صلى الله عليه وسلم - أفضل من ليلة القدر وأسمى ، فأثبتها حبر الأمة عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - ورجحه النووي ، وقال : والحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء ، الحديث ، ابن عباس رضي الله عنهما ، وهذا قول أنس وعكرمة والحسن والربيع بن [ ص: 251 ] سليمان وجماعة من المفسرين ، قال القرطبي : قد ثبت ذلك - يعني رؤية الباري جل شأنه - سمعا بقوله تعالى ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) وإذا جازت في الآخرة جازت في الدنيا لتساوي الوقتين بالنسبة إلى الموتى .

كذا قال ، وقال القاضي عياض : رؤية الله تعالى جائزة عقلا ، وتثبت الأخبار الصحيحة المشهورة وقوعها للمؤمنين في الآخرة ، وأما في الدنيا فقال مالك : إنما لم ير سبحانه في الدنيا لأنه باق ، والباقي لا يرى بالفاني ، فإذا كان في الآخرة رزقوا أبصارا باقية فرأوا الباقي بالباقي .

قال القاضي عياض : وليس في الكلام استحالة الرؤية إلا من حيث القدرة ، فإذا أقدر الله من شاء من عباده عليها لم يمتنع ، وقد وقع في صحيح مسلم ما يؤيد هذه التفرقة في حديث مرفوع فيه ( واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا ) وأخرجه ابن خزيمة من حديث أبي أمامة ، ومن حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنهما - فإن جازت الرؤية في الدنيا عقلا فقد امتنعت سمعا ، لكن من أثبتها للنبي - صلى الله عليه وسلم - له أن يقول : إن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه . كذا في الفتح ، قال : وقد اختلف السلف في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه فذهب جماعة إلى إثباتها ، وحكى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أنه حلف أن محمدا رأى ربه ، وجزم ابن خزيمة عن عروة بن الزبير بإثباتها ، وكان يشتد عليه إذا ذكر له إنكار عائشة ، وبه قال سائر أصحاب ابن عباس - رضي الله عنهما ، وجزم به كعب الأحبار والزهري وصاحبه معمر وآخرون ، وهو قول الأشعري وغالب أتباعه ، ثم اختلفوا هل رآه بعينه أو بقلبه ؟ وعن الإمام أحمد - رضي الله عنه - كالقولين ، قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري : جاءت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أخبار مطلقة وأخرى مقيدة ، قال : فيجب حمل مطلقها على مقيدها ، ذلك ما أخرجه النسائي بسند صحيح وصححه الحاكم أيضا من طريق عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم ، والكلام لموسى والرؤية لمحمد .

وأخرجه ابن خزيمة بلفظ : إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة - الحديث .

وأخرج ابن إسحاق من طريق عبد الله بن أبي سلمة ، أن ابن [ ص: 252 ] عمر أرسل إلى ابن عباس - رضي الله عنهم : هل رأى محمد ربه ؟ فأرسل إليه أن نعم . ومنها ما أخرجه مسلم من طريق أبي العالية عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى ( ما كذب الفؤاد ما رأى ولقد رآه نزلة أخرى ) قال رأى ربه بفؤاده مرتين . وله من طريق عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : رآه بقلبه .

وأصرح من ذلك ما أخرجه ابن مردويه من طريق عطاء عن ابن عباس أيضا قال : لم يره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعينه ، إنما رآه بقلبه .

وروى ابن خزيمة بإسناد قوي عن أنس - رضي الله عنه - قال : رأى محمد ربه . وعند مسلم من حديث أبي ذر أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : " نور أنى أراه " وللإمام أحمد عنه - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم : " رأيت نورا " ولابن خزيمة عنه قال : رآه بقلبه ولم يره بعينه ، وبهذا يتبين مراد أبي ذر - رضي الله عنه - بذكر النور ، أي : النور حال ( بينه ) وبين رؤيته له ببصره .

والحاصل أن في هذه المسألة ثلاث أقوال ، أحدها ثبوت رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه ، وهو قول ابن عباس وأتباعه ، وهو ظاهر ما ذهب إليه الإمام أحمد - رضي الله عنه ، فقد روى الخلال في كتاب السنة عن أبي بكر المروذي قال : قلت لأحمد : إنهم يقولون : إن عائشة قالت : من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، فبأي شيء يدفع قولها ؟ قال : بقول النبي - صلى الله عليه وسلم : " رأيت ربي " ، قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أكبر من قولها .

وجنح ابن خزيمة في كتاب التوحيد إلى ترجيح الإثبات ، وأطنب في الاستدلال له بما يطول ذكره ، وحمل ما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من قوله إنه إنما رآه بقلبه على أن الرؤيا وقعت مرتين مرة بعينه ومرة بقلبه .

( الثاني ) : منع ذلك في الدنيا ، وهو قول عائشة الصديقة بنت الصديق - رضي الله عنهما - قالت رضي الله عنها : من زعم أن محمدا رأى ربه بعين رأسه فقد أعظم الفرية على الله .

وروى الترمذي عن الشعبي قال : لقي ابن عباس - رضي الله عنهما - كعبا بعرفة فسأله عن شيء ، فكبر حتى جاوبته الجبال ، فقال ابن عباس : إنا بنو هاشم - وزاد عبد الرزاق : نقول إن محمدا رأى ربه [ ص: 253 ] مرتين . فقال كعب : إن الله قسم رؤيته وكلمه ، زاد عبد الرزاق : بين موسى ومحمد ، فكلم موسى مرتين ، ورآه محمد مرتين .

قال مسروق : فدخلت على عائشة فقلت : هل رأى محمد ربه ؟ قالت : لقد قف شعري - أي قام من الفزع لما حصل - عندها من هيبة الله واعتقدته من تنزيهه تعالى واستحالة وقوع ذلك ، ثم قالت له : - أين أنت من ثلاث آيات ؟ من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ، وفي لفظ : من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، ثم قرأت ( لا تدركه الأبصار ) - ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ) ولكن رأى جبريل في صورته مرتين .

وفي صحيح البخاري ومسلم وسنن الترمذي أن مسروقا قال : قلت لعائشة : يا أمتاه - أصله يا أم والهاء للسكت فأضيف إليها ألف الاستغاثة فأبدلت تاء وزيدت هاء السكت بعد الألف - هل رأى محمد ربه ؟ فقالت : لقد قف شعري مما قلت ، أين أنت من ثلاث ؟ من حدثكهن فقد كذب ، من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت الآيتين ، ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت ( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ) ومن حدثك أنه كتم شيئا من كتاب الله فقد كذب ثم قرأت ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) الآية ، ولكنه رأى جبريل عليه السلام في صورته مرتين ، ووافق عائشة رضي الله عنها على ما ذهبت إليه من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير ربه بعين رأسه جماعة من الصحابة منهم ابن مسعود وأبو هريرة وغيرهم - رضي الله عنهم ، وبه قال جمع العلماء ، بل نقل الدارمي الحافظ إجماع الصحابة على ذلك ، واعترض الإمام النووي وغيره على من ذهب إلى مذهب عائشة بأنها - رضي الله عنها - لم تنف وقوع الرؤية بحديث مرفوع ، ولو كان معها لذكرته ، وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرت من ظاهر الآية ، وقد خالفها غيرها من الصحابة ، والصحابي إذا قال قولا فخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجة اتفاقا ، والمراد بنفي الإدراك في الآية الكريمة نفي الإحاطة ، وذلك لا ينافي الرؤية . انتهى .

كما قدمنا ذلك موضحا ، وجزمه بأن عائشة رضي الله عنها لم تنف الرؤية بحديث مرفوع تبع فيه ابن خزيمة ، فإنه قال في كتاب التوحيد من صحيحه : [ ص: 254 ] النفي لا يوجب علما ، قال : ولم تحك عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرها أنه لم ير ربه ، وإنما تأولت الآية . انتهى .

وهذا عجيب منهما ، ففي الصحيحين والترمذي وغيرهما أن مسروقا قال : كنت متكئا عند عائشة رضي الله عنها فقالت : يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بهن فقد أعظم على الله الفرية .

قال : وكنت متكئا فجلست فقلت : يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ، ألم يقل الله ( ولقد رآه بالأفق المبين ) ( ولقد رآه نزلة أخرى ) فقالت : أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض . ثم قالت : أولم تسمع أن الله تعالى يقول ( لا تدركه الأبصار ) وقرأت الآيتين
.

وأخرجه ابن مردويه من طريق أخرى بإسناد مسلم فقالت : أنا أول من سأل - رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن هذا فقلت : يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ فقال : لا ، إنما رأيت جبريل منهبطا .

نعم ، خالف ابن عباس عائشة رضي الله عنها باحتجاجها بالآية الكريمة ، فأخرج الترمذي من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : رأى محمد ربه ، قلت : أليس الله يقول ( لا تدركه الأبصار ) قال : ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، وقد رأى ربه مرتين .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - ما نقل عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - من إثبات رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه إنما يعني رؤية المنام ، فإنه سئل عن ذلك ، قال : نعم رآه ، فإن رؤى الأنبياء حق ، ولم يقل إنه رآه بعين رأسه .

وقال شيخ الإسلام أيضا : ابن عباس - رضي الله عنهما - لم يقل أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بعيني رأسه يقظة ، ومن حكى عنه ذلك فقد وهم ، وهذه نصوصه موجودة ليس فيها شيء من ذلك . قال : ولفظ الإمام أحمد كلفظ ابن عباس . قال : وأهل السنة متفقون على أن الله تعالى لا يراه أحد بعينه في الدنيا لا نبي ولا غير نبي ، ولم يقع النزاع إلا في نبينا - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، مع أن الأحاديث المعروفة ليس في شيء منها أنه رآه ، وإنما روي ذلك بإسناد موضوع باتفاق أهل الحديث . انتهى .

وإذا علم ما حررناه فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة [ ص: 255 ] - رضي الله عنهم - بأن يحمل نفيها على رؤية البصر ، وإثباته على رؤية القلب كما قاله الحافظ ابن حجر في شرح البخاري .

ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرد حصول العلم ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالما بالله على الدوام ، بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره ، والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلا ولو جرت العادة بخلقها في العين ، وقد مر عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سأله - صلى الله عليه وسلم - هل رأيت ربك ؟ قال : " نور أنى أراه " ورواه الترمذي أيضا بهذا اللفظ ، ورواه الإمام أحمد عنه قال " رأيت نورا " ، ولابن خزيمة عنه قال : رآه بقلبه ، ولم يره بعينه .

قال الحافظ ابن حجر : وبهذا تبين مراد أبي ذر بذكر النور ، أي : أن النور حال ( بينه و ) بين رؤيته له ببصره .

وقال الإمام المحقق ابن القيم في عدة مواضع من كتبه كإعلام الموقعين والجيوش وغيرهما : سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول : معناه كان ثم نور وحال دون رؤيته نور فأنى أراه ، ويدل عليه أن في بعض ألفاظ الصحيح : هل رأيت ربك ؟ فقال : رأيت نورا . قال المحقق ابن القيم : وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس حتى صحفه بعضهم فقال : نوراني أراه ، على أنها ياء النسبة والكلمة واحدة ، وهذا خطأ لفظا ومعنى ، وإنما أوجب لهم هذا الفهم أنهم لما اعتقدوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه وكان قوله " أنى أراه " كالإنكار للرؤية حاروا في الحديث ، وبعضهم رده باضطراب لفظه ، وكل هذا عدول عن موجب الدليل . قال المحقق ابن القيم : ويدل على ما قال شيخنا قوله - صلى الله عليه وسلم : " حجابه النور " ، فهذا النور والله أعلم هو النور المذكور في حديث أبي ذر . انتهى .

وذكر ابن الأسير في حل ألفاظ جامع الأصول : أن الإمام أحمد - رضي الله عنه - سأل عن حديث أبي ذر هذا فقال : مازلت منكرا لهذا الحديث وما أدري ما وجهه . وقال ابن خزيمة : في القلب من صحة هذا الخبر شيء . وقال بعض العلماء في هذا الحديث : قد أجمعنا على أنه تعالى ليس بنور ، وخطأنا المجوس في قولهم هو نور ، والأنوار أجسام ، والباري سبحانه وتعالى ليس بجسم ، والمراد بهذا الحديث أن حجابه سبحانه النور ، وكذلك روي في حديث [ ص: 256 ] أبي موسى - رضي الله عنه ، فالمعنى : كيف أراه وحجابه النور ، والله أعلم .

( الثالث ) : الوقوف عن القطع بالنفي أو الإثبات في هذه المسألة ، وقد رجح هذا جماعة منهم القرطبي في المفهم في شرح صحيح مسلم ، فإنه قال : الوقوف في هذه المسألة أرجح ، وعزاه لجماعة من المحققين ، وقواه بأنه ليس في الباب دليل قاطع ، وغاية ما استدل به للطائفتين ظواهر متعارضة قابلة للتأويل ، قال : وليست المسألة من العمليات فيكتفى فيها بالأدلة الظنية ، وإنما هي من المعتقدات ، فلا يكتفى فيها إلا بالدليل القطعي . ومن استنار قلبه لاقتفاء الآثار وخلع ربقة التقليد التي هي مثار التغيير في وجوه الأخبار علم أن السلامة في التسليم ، وفوق كل ذي علم عليم ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية