الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما الذي يرجع إلى المقسوم فواحد وهو أن يكون المقسوم مملوكا للمقسوم له وقت القسمة ، فإن لم يكن لا تجوز القسمة ; لأن القسمة إفراز بعض الأنصباء ، ومبادلة البعض ، وكل ذلك لا يصح إلا في المملوك ، وعلى هذا إذا استحقت العين المقسومة تبطل القسمة في الظاهر ، وفي الحقيقة تبين أنها لم تصح ، ولو استحق شيء منها تبطل في القدر المستحق ، ثم قد تستأنف القسمة وقد لا تستأنف ، ويثبت الخيار وقد لا يثبت .

                                                                                                                                وبيان هذه الجملة : أنه إذا ورد الاستحقاق على المقسوم لا يخلو الأمر فيه من أحد وجهين : إما أن ورد على كله ، وإما أن ورد على جزء ، فإن ورد على كل المقسوم تبطل القسمة ، وفي الحقيقة لم تصح من الأصل ; لانعدام شرط الصحة - وهو الملك المشترك - فتستأنف القسمة ، وإن ورد على جزء من المقسوم لا يخلو من أحد وجهين أيضا : إما أن ورد على جزء شائع منه وإما أن ورد على جزء معين من أحد النصيبين ، فإن ورد على جزء شائع لا يخلو من أحد وجهين : أيضا إما أن ورد على جزء شائع من النصيبين جميعا ، وإما أن ورد على جزء شائع من أحد النصيبين دون الآخر ، فإن ورد الآخر على جزء شائع من النصيبين جميعا .

                                                                                                                                كالدار المشتركة بين رجلين نصفين ، اقتسماها فأخذ أحدهما ثلثا من مقدمها ، وأخذ الآخر ثلثين من مؤخرها ، وقيمتها سواء بأن كانت قيمة كل واحد منهما ستمائة درهم مثلا فاستحق نصف الدار فاستأنف القسمة بالإجماع ; لأنه بالاستحقاق تبين أن نصف الدار شائعا ملك المستحق ، فتبين أن القسمة لم تصح في النصف الشائع ، وذلك غير معلوم فبطلت القسمة أصلا ، وإن استحق نصف نصيب صاحب المقدم شائعا تستأنف القسمة أيضا عند أبي يوسف - رحمه الله ; لأنه ظهر أن المستحق شريكهما في الدار فظهر أن قسمتهما لم تصح دونه ، فتستأنف القسمة ، كما إذا ورد الاستحقاق على نصف الدار شائعا .

                                                                                                                                وعند أبي حنيفة ومحمد - عليهما الرحمة - له الخيار إن شاء أمسك ما في يده ورجع بباقي حصته وهو مثل ما استحق في نصيب الآخر ، وإن شاء فسخ القسمة ; لأن بالاستحقاق ظهر أن القسمة لم تصح في القدر المستحق لا فيما وراءه ; لأن المانع من الصحة انعدام الملك ، وذلك في القدر المستحق لا في ما وراءه ، وليس من ضرورة انعدام الصحة في القدر المستحق انعدامها في الباقي .

                                                                                                                                لأن معنى القسمة - وهو الإفراز والمبادلة - لم ينعدم باستحقاق هذا القدر في الباقي فلا تبطل القسمة في الباقي ، بخلاف ما إذا استحق نصف الدار شائعا ; لأن هناك وإن ورد الاستحقاق على النصف فأوجب بطلان القسمة فيه مقصودا ، لكن من ضرورته بطلان القسمة في الباقي ; لانعدام معنى القسمة في الباقي أصلا ، وههنا لم ينعدم فلا تبطل ، لكن يثبت الخيار إن شاء رجع بباقي حصته في نصيب شريكه وذلك مثل نصف المستحق ; لأن القدر المستحق من النصيبين جميعا ، فيرجع عليه بذلك وهو ربع نصيبه إن شاء ، وإن شاء فسخ القسمة ; لاختلاف معناها ولدخول عيب الشركة ، إذ الشركة في الأعيان المجتمعة عيب ، والعيب يثبت الخيار ، وذكر الطحاوي - رحمه الله - الخلاف في المسألة بين أبي حنيفة وصاحبيه ، ولو كان صاحب المقدم باع نصف ما في يده واستحق النصف الباقي فإنه يرجع على صاحبه بربع ما في يده عند أبي حنيفة ومحمد ، وعند أبي يوسف يغرم نصف قيمة ما باع لشريكه ويضمه إلى ما في يد شريكه ويقتسمان نصفين .

                                                                                                                                ( وجه ) قول أبي يوسف ما بينا أن بالاستحقاق ظهر أن القسمة لم تصح أصلا [ ص: 25 ] وأن البيع كان فاسدا فيضمن نصف قيمة ما باع شريكه ، ثم يقتسمان الباقي نصفين .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما ما ذكرنا في المسألة المقدمة ، إلا أن هنا لا يثبت خيار الفسخ ; لمانع وهو البيع فيرجع على صاحبه بربع ما في يده ، ولو استحق نصف معين من أحد النصيبين لا تبطل القسمة بالإجماع ; لما ذكرنا في المسائل المتقدمة بل أولى ; لأن الاستحقاق ههنا ورد على جزء معين ، فلا يظهر أن المستحق كان شريكا لهما فلا تبطل القسمة لكن يثبت الخيار ، والمستحق عليه إن شاء نقض القسمة ; لأن الاستحقاق أوجب انتقاض المعقود عليه ، والانتقاض في الأعيان المجتمعة عيب ، فيثبت الخيار ، وإن شاء رجع على صاحبه بربع ما في يده ; لما بينا أن القدر المستحق من النصيبين جميعا ، ولو استحق كل ما في يده لرجع عليه بالنصف فإذا استحق النصف يرجع بالربع ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                وعلى هذا مائة شاة بين رجلين اقتسماها ، فأخذ أحدهما أربعين تساوي خمسمائة درهم ، وأخذ الآخر ستين تساوي خمسمائة درهم فاستحقت شاة من الأربعين تساوي عشرة دراهم لم تبطل القسمة بالإجماع ; لأنه تبين أن القسمة صادفت المملوك فيما وراء القدر المستحق ، والمستحق معين فلا تظهر الشركة هنا أصلا ، فلا تبطل القسمة ، ولكن يرجع على شريكه بحقه وهو خمسة دراهم ; لأن المستحق من النصيبين جميعا عشرة دراهم ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                كر حنطة بين رجلين نصفان عشرة منه طعام جيد ، وثلاثون رديء فاقتسماه ، فأخذ أحدهما عشرة أقفزة جيدة وثوبا ، وأخذ الآخر ثلاثين رديئا ، حتى جازت القسمة فاستحق من الثلاثين عشرة أقفزة ، يرجع على صاحبه بنصف الثوب استحسانا ، والقياس ما ذكره في الزيادات أنه يرجع عليه بثلث الثوب وثلث الطعام الجيد .

                                                                                                                                ووجهه أن الاستحقاق ورد على عشرة شائعة في الثلاثين ، فكان المستحق في الحقيقة من كل عشرة ثلثها ، وذلك يوجب الرجوع بثلث الطعام الجيد .

                                                                                                                                وجه الاستحسان أن طريق جواز هذه القسمة أن تكون العشرة بمقابلة العشرة ، والعشرون بمقابلة الثوب ، فإذا استحق منه عشرة ، وأنه بمقابلة نصف الثوب ; فيرجع عليه بنصف الثوب ، وقوله : للمستحق عشرة شائعة في الثلاثين لا العشرة المعينة - وهي التي من حصة الثوب - فنعم .

                                                                                                                                هذا هو الحقيقة ، إلا أنا لو عملنا بهذه الحقيقة ; لاحتجنا إلى نقض القسمة وإعادتها ، ولو صرفنا الاستحقاق إلى عشرة - هي من حصة الثوب - لم نحتج إلى ذلك ، وتصرف العاقل تجب صيانته عن النقض والإبطال ما أمكن ، وذلك فيما قلناه .

                                                                                                                                وعلى هذا أرض بين رجلين نصفين قسمت ، ثم استحق أحد النصيبين وقد بنى صاحبه فيه بناء أو غرس غرسا فنقض البناء وقلع الغرس ; لم يرجع المستحق عليه على صاحبه بشيء من قيمة البناء والغرس ، والأصل فيه أن كل قسمة وقعت بإجبار القاضي أو باختيار الشريكين ، على الوجه الذي يجبرهما القاضي ، ولو ترافعا إليه ثم استحق أحد النصيبين وقد بنى صاحبه فيه بناء أو غرس غرسا فنقض وقلع ; لا يرجع بشيء من ذلك على صاحبه ; لأن صاحبه مجبور على القسمة من جهة القاضي فيكون مضافا إلى القاضي ، أما إذا وقعت القسمة بإجبار القاضي فلا شك فيه ، وكذا إذا اقتسما بأنفسهما ; لأن ذلك قسمة جبر من حيث المعنى ; لدخولهما تحت جبر القاضي عند المرافعة إليه ، وإذا كان مجبورا عليه فلم يوجد منه ضمان السلامة ; فلا يؤاخذ بضمان الاستحقاق ، إذ هو ضمان السلامة .

                                                                                                                                ونظير هذا الشفيع إذا أخذ العقار من المشتري بالشفعة ، وبنى فيه أو غرس ، ثم استحق وقلع البناء لا يرجع بقيمة البناء على المشتري ; لأنه ما ملكه باختياره بل أخذ منه جبرا ، وكذلك قال محمد في الجارية المأسورة إذا اشتراها رجل من أهل الحرب ، ثم أخذها المالك القديم فاستولدها ، ثم استحقها رجل : لا يرجع بقيمة الولد على الذي أخذها من يده ; لأنه لم يأخذها منه باختياره بل كرها وجبرا ، وكذلك الأب إذا وطئ جارية ابنه فأعلقها ، ثم استحقها رجل ; لا يرجع بقيمة الولد على الابن ; لأنه تملكها من غير اختيار الابن ، وقال أبو يوسف : إذا غصب جارية فأبقت من يده فأدى ضمانها ، ثم عادت الجارية فاستولدها الغاصب ، ثم استحقت له أن يرجع بقيمة الولد على المولى ; لأنه كان مختارا في أخذ القيمة من الغاصب ، فكان ضامنا السلامة فيرجع عليه بحكم الضمان .

                                                                                                                                وعلى هذا داران أو أرضان بين رجلين اقتسما ، فأخذ كل واحد منهما إحداهما وبنى فيها ، ثم استحقت رجع بنصف قيمة البناء عند أبي حنيفة ; لأن القاضي لا يجبر على قسمة الجمع في الدور والعقارات عنده ، فإذا اقتسما بأنفسهما كانت القسمة منهما مبادلة ، [ ص: 26 ] فأشبهت البيع فكان كل واحد منهما ضامنا سلامة النصف لصاحبه ، فإذا لم يسلم يرجع عليه بحكم الضمان كما في البيع .

                                                                                                                                وأما عندهما فقد اختلف المشايخ فيه قال بعضهم : لا يرجع ; لأن القاضي يجبر على هذه القسمة عندهما ، فأشبه استحقاق النصف من دار واحدة ، وقال بعضهم : يرجع .

                                                                                                                                وعليه اعتمد القدوري - عليه الرحمة - وهو الصحيح ; لأن القاضي إنما يجبر على قسمة الجمع ههنا عندهما إذا رأى الجمع أعدل ، ولا يعرف ذلك من رأي القاضي إذا فعلا بأنفسهما ، ولو كانتا جاريتين فأخذ كل واحد منهما جارية فاستولدها ، ثم استحقت رجع على شريكه بالنصف عند أبي حنيفة ; لأن القاضي لا يجبر على قسمة الرقيق عنده ، فإذا اقتسما بتراضيهما أشبه البيع على ما ذكرنا .

                                                                                                                                وأما عندهما فينبغي أن لا يرجع ، كذا ذكره القدوري - عليه الرحمة - وفرق بين الرقيق وبين الدور وبينهما فرق ; لأن القاضي هناك لا يجبر على الجمع عينا ولكنه يراعي الأعدل في ذلك من التفريق والجمع ، وههنا يجبر على الجمع ; لتعذر التفريق فلم يوجد ضمان السلامة من صاحبه فلا يرجع عليه ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                وعلى هذا الأصل إذا اقتسم قوم دارا ، وفيها كنيف شارع على الطريق أو ظله ، فإن كان على طريق العامة ; لا يحسب ذرع الكنيف والظل من ذرع الدار ; لأن رقبة الأرض ليست بمملوكة لأحد ، بل هي حق العامة ، وإن كان على طريق غير نافذ يحسب ذلك من ذرع الدار ; لأن له في السكة مسلكا فأشبه علو البيت ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية