الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر مسير صلاح الدين لحرب قلج أرسلان

في هذه السنة سار صلاح الدين يوسف بن أيوب من الشام إلى بلاد قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان ، وهي ملطية وسيواس وما بينهما ، وقونية ليحاربه .

وسبب ذلك أن نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود ، صاحب حصن كيفا وغيره من ديار بكر ، كان قد تزوج ابنة قلج أرسلان المذكور ، وبقيت عنده مدة ، ثم إنه أحب مغنية ، فتزوجها ، ومال إليها ، وحكمت في بلاده وخزائنه ، وأعرض عن ابنة قلج أرسلان ، وتركها نسيا منسيا ، فبلغ أباها الخبر ، فعزم على قصد نور الدين وأخذ بلاده ، فأرسل نور الدين إلى صلاح الدين يستجير به ويسأله كف يد قلج أرسلان عنه ، فأرسل صلاح الدين إلى قلج أرسلان في المعنى ، فأعاد الجواب : إنني كنت قد سلمت إلى نور الدين عدة حصون مجاورة بلاده لما تزوج ابنتي ، فحيث آل الأمر إلى ما [ ص: 448 ] تعلمه ، فأنا أريد أن يعيد إلي ما أخذه مني .

وترددت الرسل بينهما ، فلم يستقر حال فيها ، فهادن صلاح الدين الفرنج ، وسار في عساكره ، وكان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب بها ، فتركها ذات اليسار ، وسار على تل باشر إلى رعبان ، فأتاه بها نور الدين محمد وأقام عنده ، فلما سمع قلج أرسلان بقربه منه أرسل إليه أكبر أمير عنده ، ويقول له : إن هذا الرجل فعل مع ابنتي كذا ، ولا بد من قصد بلاده ، وتعريفه محل نفسه ، فلما وصل الرسول ، واجتمع بصلاح الدين وأدى الرسالة ، امتعض صلاح الدين لذلك واغتاظ ، وقال للرسول : قل لصاحبك والله الذي لا إله إلا هو لئن لم يرجع لأسيرن إلى ملطية وبيني وبينها يومان ، ولا أنزل عن فرسي إلا في البلد ، ثم أقصد جميع بلاده وآخذها منه .

فرأى الرسول أمرا شديدا ، فقام من عنده ، وكان قد رأى العسكر وما هو عليه من القوة والتجمل ، وكثرة السلاح والدواب ، وغير ذلك ، وليس عنده ما يقاربه ، فعلم أنه إن قصدهم أخذ بلادهم ، فأرسل إليه من الغد يطلب أن يجتمع به ، فأحضره فقال له : أريد أن أقول شيئا من عندي ليس رسالة عن صاحبي ، وأحب أن تنصفني ، فقال له : قل ! فقال : يا مولانا ما هو قبيح بمثلك ، وأنت من أعظم السلاطين وأكبرهم شأنا ، أن تسمع الناس عنك أنك صالحت الفرنج ، وتركت الغزو ومصالح المملكة ، وأعرضت عن كل ما فيه صلاح لك ولرعيتك وللمسلمين عامة ، وجمعت العساكر من أطراف البلاد البعيدة والقريبة ، وخسرت أنت وعساكرك الأموال العظيمة لأجل قحبة مغنية ؟ وما يكون عذرك عند الله تعالى ، ثم عند الخليفة وملوك الإسلام والعالم كافة ؟ واحسب أن أحدا ما يواجهك بهذا ، أما يعلمون أن الأمر هكذا ؟ ثم احسب أن قلج أرسلان مات ، وهذه ابنته قد أرسلتني إليك تستجير بك ، وتسألك أن تنصفها من زوجها ، فإن فعلت ، فهو الظن بك أن لا تردها .

فقال : والله الحق بيدك ، وإن الأمر لكما تقول ، ولكن هذا الرجل دخل علي وتمسك بي ويقبح بي تركه ، لكنك أنت اجتمع به ، وأصلح الحال بينكم على ما [ ص: 449 ] تحبونه ، وأنا أعينكم عليه ، وأقبح فعله عنده ، ووعد من نفسه بكل جميل ، فاجتمع الرسول بصاحب الحصن ، وتردد القول بينهم ، فاستقر أن صاحب الحصن يخرج المغنية عنه بعد سنة ، وإن كان لا يفعل ينزل صلاح الدين عن نصرته ، ويكون هو وقلج أرسلان عليه ، واصطلحوا على ذلك وعاد صلاح الدين عنه إلى الشام ، وعاد نور الدين إلى بلاده ، فلما انقضت المدة أخرج نور الدين المغنية عنه ، فتوجهت إلى بغداد ، وأقامت بها إلى أن ماتت .

التالي السابق


الخدمات العلمية