الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      التفسير:

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم : {قبيله}: جنوده، قال مجاهد : يعني: الجن والشياطين، وقيل {قبيله}: خيله، ابن زيد : {قبيله}: نسله.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 26 ] إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون يعني: أنه جعل الشياطين يتولون الكافرين، ويزيدون في غيهم؛ عقوبة لهم على كفرهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى: إنا سوينا بين الشياطين والكفار في عصيان الله عز وجل.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه الآية -في قول بعض العلماء- دليل على أن الجن لا يرون؛ لقوله: من حيث لا ترونهم ، وقيل: جائز أن يروا؛ لأن الله تعالى إذا شاء أن يريهم كشف أجسامهم حتى ترى، وقد جاءت في رؤيتهم أخبار صحيحة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها : (الفاحشة) في قول أكثر المفسرين: طوافهم عراة، وقال الحسن : هي الشرك والكفر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: والله أمرنا بها : توهموا أن آباءهم لم يكونوا عليها إلا بأمر الله عز وجل.

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن : معناه: أنهم قالوا: لو كره الله ما نحن عليه؛ لنقلنا عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة : قال مجاهد ، وغيره: من بدئ سعيدا؛ عاد سعيدا، ومن بدئ شقيا؛ عاد شقيا.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن ابن عباس : أن المعنى: كما خلقكم أولا تعودون بعد الفناء؛ يعني: من الشقاوة، أو السعادة، وهذا نحو القول المتقدم عن مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى: كما بدأكم أول مرة كذلك يعيدكم؛ لأنهم أنكروا البعث.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 27 ] وقيل: المعنى: أن الناس يحشرون حفاة عراة غرلا؛ والوقف على هذا القول والقول الذي قبله يحسن على {تعودون}، ولا يحسن عليه على القولين الأولين.

                                                                                                                                                                                                                                      يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد الآية:

                                                                                                                                                                                                                                      روي: أنهم كانوا يطوفون عراة، ويحرمون الودك ما أقاموا بالموسم، فقيل لهم: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ؛ أي: لا تسرفوا في تحريم ما لم يحرم عليكم.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن زيد : معنى ولا تسرفوا : لا تأكلوا حراما.

                                                                                                                                                                                                                                      قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق : {الطيبات} المستلذ من الطعام، وقيل: الحلال، وقيل: هو عام في كل مباح، وقيل: هو في لبس الثياب في الطواف.

                                                                                                                                                                                                                                      الفراء : كانت قبائل العرب لا يأكلون اللحم أيام حجهم، ويطوفون عراة؛ فنزلت الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      قتادة : يعني بذلك: ما حرموه من البحائر والسوائب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة : قال الضحاك ، وغيره: يشترك فيها المسلمون والمشركون في الدنيا، وتخلص للمسلمين في الآخرة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ولكل أمة أجل أي: وقت موقت.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: لا يستأخرون ساعة : خصت (الساعة) بالذكر؛ لأنها أقل أسماء الأوقات، والمعنى: لا يستأخرون عنه ساعة، ولا أقل من ساعة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 28 ] وقوله: أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب يعني: ما قدر لهم من خير أو شر، عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      ابن جبير : ما قدر لهم من الشقوة والسعادة.

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن ، وأبو صالح: ينالهم نصيبهم من العذاب بقدر كفرهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن زيد ، وغيره: المعنى في نصيبهم من الكتاب : الرزق والعمل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى: ينالهم ما كتب لهم من سواد الوجوه، وزرقة العيون.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هو ما ينالهم في الدنيا من العذاب، دون الآخرة.

                                                                                                                                                                                                                                      واختيار الطبري أن يكون المعنى: ما كتب لهم من خير وشر، ورزق وعمل، وأجل، قال: ألا ترى أنه أتبع ذلك بقوله: حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم ؛ يعني: رسل ملك الموت.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى: حتى إذا جاءتهم رسل العذاب يتوفونهم عذابا؛ فهو كقولك: (قتلته بالعذاب)، والأول من استيفاء العدد.

                                                                                                                                                                                                                                      وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين أي: أقروا على أنفسهم بالكفر.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 29 ] قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار الآية:

                                                                                                                                                                                                                                      قيل: {في} بمعنى: (مع)، وقيل: هي على بابها؛ والمعنى: ادخلوا في جملتهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى قوله: لعنت أختها : أخوة الملة.

                                                                                                                                                                                                                                      حتى إذا اداركوا فيها جميعا أي: تلاحقوا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: عذابا ضعفا من النار : (الضعف): المثل الزائد على مثله، وعن ابن مسعود : أن (الضعف) ههنا: الأفاعي والحيات.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ولكن لا تعلمون أي: ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا مقدار ما أعد لكم من العذاب؛ فلذلك تسألون الضعف، ومن قرأ: {لا يعلمون} ؛ بالياء؛ فالمعنى: لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فما كان لكم علينا من فضل أي: لأنكم كفرتم كفرنا، فأنتم مثلنا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: لا تفتح لهم أبواب السماء قيل: معناه: لا تفتح لهم أبواب الجنة؛ لأن الجنة في السماء، ودل على ذلك قوله تعالى: ولا يدخلون الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد ، والنخعي : لا تفتح أبواب السماء لدعائهم وأعمالهم.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 30 ] ابن جريج : لا لأعمالهم، ولا لأرواحهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث فيها: "أنها لا تفتح لأرواحهم".

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط أي: لا يدخلونها ألبتة، وهذا مستعمل في كلام العرب، و سم الخياط : ثقب الإبرة.

                                                                                                                                                                                                                                      عن ابن عباس ، وغيره: وكل ثقب في البدن يسمى (سما)، و (سما)، وجمعه: (سموم)، وجمع (السم) القاتل: (سمام).

                                                                                                                                                                                                                                      و {الخياط} و (المخيط): الإبر؛ كما يقال: (إزار، ومئزر).

                                                                                                                                                                                                                                      و {الجمل}: واحد الإبل، وفيه وجوه من القراءات مذكورة في موضعها.

                                                                                                                                                                                                                                      لهم من جهنم مهاد أي: فراش.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن فوقهم غواش أي: غاشية من العذاب فوق غاشية.

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك نجزي الظالمين يعني: الكفار.

                                                                                                                                                                                                                                      ونـزعنا ما في صدورهم من غل : (الغل): الحقد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الغل على باب الجنة كمبارك الإبل، قد نزعه الله تعالى من قلوب المؤمنين".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 31 ] وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا أي: إلى العمل الذي صيرنا إلى هذا.

                                                                                                                                                                                                                                      ونودوا أن تلكم الجنة أي: بأن تلكم الجنة، ويجوز أن تكون {أن} مفسرة للنداء؛ كأنه قال: قيل لهم: تلكم الجنة ؛ أي: هذه الجنة التي وعدتم بها في الدنيا، ويجوز أن يكونوا لما رأوها قيل لهم: تلكم الجنة، قبل أن يدخلوها.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى أورثتموها بما كنتم تعملون : أورثتم منازلها، ودخولهم إياها برحمة الله عز وجل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: الدخول برحمة الله تعالى، وتلك الرحمة إنما تدرك بالعمل، فيكون معنى أورثتموها بما كنتم تعملون : أنهم نالوا الرحمة التي بها دخلوا الجنة بأعمالهم، وقال: {أورثتموها} ؛ لأنهم ورثوا منازل أهل النار التي كانت تكون لهم لو أنهم أطاعوا الله عز وجل، روي معنى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية