الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( للذين استجابوا لربهم الحسنى ) ففيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تم الكلام عند قوله : ( كذلك يضرب الله الأمثال ) ثم استأنف الكلام بقوله : ( للذين استجابوا لربهم الحسنى ) ومحله الرفع بالابتداء وللذين خبره ، وتقديره : لهم الخصلة الحسنى والحالة الحسنى.

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه متصل بما قبله ، والتقدير : كأنه قال : الذي يبقى هو مثل المستجيب والذي يذهب جفاء مثل من لا يستجيب ، ثم بين الوجه في كونه مثلا ، وهو أنه لمن يستجيب الحسنى وهو الجنة ، ولمن لا يستجيب أنواع الحسرة والعقوبة ، وفيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير : كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الاستجابة الحسنى ، فيكون الحسنى صفة لمصدر محذوف.

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أحوال السعداء وأحوال الأشقياء ، أما أحوال السعداء ، فهي قوله : ( للذين استجابوا لربهم الحسنى ) والمعنى أن الذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعدل والنبوة وبعث الرسل والتزام الشرائع الواردة على لسان رسوله فلهم الحسنى ، قال ابن عباس : الجنة ، وقال أهل المعاني : الحسنى هي المنفعة العظمى في الحسن ، وهي المنفعة الخالصة عن شوائب المضرة الدائمة الخالية عن [ ص: 31 ] الانقطاع المقرونة بالتعظيم والإجلال ، ولم يذكر الزيادة هاهنا ؛ لأنه تعالى قد ذكرها في سورة أخرى ، وهو قوله : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [ يونس : 26] وأما أحوال الأشقياء ، فهي قوله : ( والذين لم يستجيبوا له ) فلهم أنواع أربعة من العذاب والعقوبة.

                                                                                                                                                                                                                                            فالنوع الأول : قوله : ( لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به ) والافتداء جعل أحد الشيئين بدلا من الآخر ، ومفعول "لافتدوا به" محذوف تقديره : لافتدوا به أنفسهم ؛ أي جعلوه فداء أنفسهم من العذاب ، والكناية في "به" عائدة إلى "ما" في قوله : ( ما في الأرض ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا المعنى حق ؛ لأن المحبوب بالذات لكل إنسان هو ذاته ، وكل ما سواه فإنما يحبه لكونه وسيلة إلى مصالح ذاته ، فإذا كانت النفس في الضرر والألم والتعب ، وكان مالكا لما يساوي عالم الأجساد والأرواح فإنه يرضى بأن يجعله فداء لنفسه ؛ لأن المحبوب بالعرض لا بد وأن يكون فداء لما يكون محبوبا بالذات.

                                                                                                                                                                                                                                            والنوع الثاني : من أنواع العذاب الذي أعده الله لهم هو قوله : ( أولئك لهم سوء الحساب ) قال الزجاج : ذاك لأن كفرهم أحبط أعمالهم ، وأقول : هاهنا حالتان : فكل ما شغلك بالله وعبوديته ومحبته فهي الحالة السعيدة الشريفة العلوية القدسية ، وكل ما شغلك بغير الله ، فهي الحالة الضارة المؤذية الخسيسة ، ولا شك أن هاتين الحالتين يقبلان الأشد والأضعف والأقل والأزيد ، ولا شك أن المواظبة على الأعمال المناسبة لهذه الأحوال توجب قوتها ورسوخها لما ثبت في المعقولات أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات الراسخة ، ولا شك أنه لما كانت كثرة الأفعال توجب حصول تلك الملكات الراسخة ، وكل واحدة من تلك الأفعال حتى اللمحة واللحظة والخطور بالبال والالتفات الضعيف ، فإنه يوجب أثرا ما في حصول تلك الحالة في النفس فهذا هو الحساب ، وعند التأمل في هذه الفصول يتبين للإنسان صدق قوله : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) [الزلزلة : 7].

                                                                                                                                                                                                                                            إذا ثبت هذا فالسعداء هم الذين استجابوا لربهم في الإعراض عما سوى الله وفي الإقبال بالكلية على عبودية الله تعالى ، ولا جرم حصل لهم الحسنى.

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الأشقياء فهم الذين لم يستجيبوا لربهم ، فلهذا السبب وجب أن يحصل لهم سوء الحساب ، والمراد بسوء الحساب أنهم أحبوا الدنيا وأعرضوا عن المولى ، فلما ماتوا بقوا محرومين عن معشوقهم الذي هو الدنيا ، وبقوا محرومين عن الفوز بخدمة حضرة المولى.

                                                                                                                                                                                                                                            والنوع الثالث : قوله تعالى : ( ومأواهم جهنم ) وذلك لأنهم كانوا غافلين عن الاستسعاد بخدمة حضرة المولى عاكفين على لذات الدنيا ، فإذا ماتوا فارقوا معشوقهم فيحترقون على مفارقتها ، وليس عندهم شيء آخر يجبر هذه المصيبة ، فلذلك قال : ( ومأواهم جهنم ) ثم إنه تعالى وصف هذا المأوى فقال : ( وبئس المهاد ) ولا شك أن الأمر كذلك.

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية