الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) الذي يخص البعض دون البعض ( فمنها ) عدم التقادم ، وأنه شرط في حد الزنا والسرقة وشرب الخمر ، وليس بشرط في حد القذف ، والفرق أن الشاهد إذا عاين الجريمة فهو مخير بين أداء الشهادة حسبة لله تعالى ; لقوله تعالى عز وجل { وأقيموا الشهادة لله } وبين التستر على أخيه المسلم ; لقوله { عليه الصلاة والسلام من ستر على أخيه المسلم ستر الله عليه في الآخرة } فلما لم يشهد على فور المعاينة حتى تقادم العهد ; دل ذلك على اختيار جهة الستر ، فإذا شهد بعد ذلك - دل على أن الضغينة حملته على ذلك فلا تقبل شهادته .

                                                                                                                                لما روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال : " أيما قوم شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته فإنما شهدوا عن ضغن ولا شهادة لهم " ، ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر ، فيكون إجماعا فدل قول سيدنا عمر رضي الله عنه أن مثل هذه الشهادة شهادة ضغينة ، وأنها غير مقبولة ; ولأن التأخير والحالة هذه يورث تهمة ، ولا شهادة للمتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف حد القذف ; لأن التأخير ثمة لا يدل على الضغينة والتهمة ; لأن الدعوى هناك شرط فاحتمل أن التأخير كان لتأخير الدعوى من المدعي ، والدعوى ليست بشرط في الحدود الثلاثة فكان التأخير ; لما قلنا ، ويشكل على هذا فصل السرقة فإن الدعوى هناك شرط ومع هذا التقادم مانع ، واختلفت عبارات مشايخنا في الجواب عن هذا الإشكال فقال بعضهم : إن معنى الضغينة والتهمة حكمة المنع من قبول الشهادة .

                                                                                                                                والسبب الظاهر هو كون الحد خالص حق الله تعالى ، والحكم يدار على السبب الظاهر لا على الحكمة ، وقد وجد السبب الظاهر في السرقة ; فيوجب المنع من قبول الشهادة وهذا ليس بسديد ; لأن الأصل تعليق الحكم بالحكمة إلا إذا كان وجه الحكمة خفيا لا يوقف عليه إلا بحرج ، فيقام السبب الظاهر مقامه وتجعل الحكمة موجودة تقديرا ، وههنا يمكن الوقوف عليه من غير حرج ولم توجد في السرقة ; لما بينا ، فيجب أن تقبل الشهادة بعد التقادم .

                                                                                                                                وقال بعضهم : إنما لا تقبل الشهادة في السرقة ; لأن دعوى السرقة بعد التقادم لم تصح ; لأن المدعي في الابتداء مخير بين أن يدعي السرقة ويقطع طمعه عن ماله احتسابا لإقامة الحد ، وبين أن يدعي أخذ المال سترا على أخيه المسلم فلما أخر - دل تأخيره على اختيار جهة الستر والإعراض عن جهة الحسبة ، فلما شهد بعد ذلك ; فقد قصد الإعراض عن جهة الستر فلا يصح إعراضه ولم يجعل قاصدا جهة الحسبة ; لأنه قد كان أعرض عنها عند اختياره جهة الستر فلم تصح دعواه السرقة فلم تقبل [ ص: 47 ] الشهادة على السرقة ; لأن قبول الشهادة يقف على دعوى صحيحة فيما تشترط فيه الدعوى ، فبقي مدعيا أخذ المال لا غير ; فتقبل الشهادة حسبة ، إذ التقادم لا يمنع قبول الشهادة على الأموال بخلاف حد القذف ; لأن المقذوف ليس بمخير بين بدل النفس وبين إقامة الحد بالدعوى ، بل الواجب عليه دفع العار عن نفسه ودعوى القذف ، فلا يتهم بالتأخير فكانت الدعوى صحيحة منه .

                                                                                                                                والشيخ منصور الماتريدي - رحمه الله - أشار إلى معنى آخر في شرح الجامع الصغير حكيته بلفظه : وهو أن عادة السراق الإقدام على السرقة في حالة الغفلة وانتهاز الفرصة في موضع الخفية ، وصاحب الحق لا يطلع على من شهد ذلك ولا يعرفهم إلا بهم وبخبرهم ، فإذا كتموا - أثموا ، وقد يعلم المدعي شهوده في غير ذلك من الحقوق ، ويطلبها إذا احتاج إليها فكانوا في سعة من تأخيرها .

                                                                                                                                وإذا بطلت الشهادة على السرقة بالتقادم قبلت في حق المال ; لأن بطلانها في حق الحد لتمكن الشبهة فيها ، والحد لا يثبت مع الشبهة .

                                                                                                                                وأما المال فيثبت معها ، ثم التقادم إنما يمنع قبول الشهادة في الحدود الثلاثة ; إذا كان التقادم في التأخير من غير عذر ظاهر ، فأما إذا كان لعذر ظاهر بأن كان المشهود عليه في موضع ليس فيه حاكم فحمل إلى بلد فيه حاكم ، فشهدوا عليه - جازت شهادتهم وإن تأخرت ; لأن هذا موضع العذر فلا يكون التقادم فيه مانعا ، ثم لم يقدر أبو حنيفة - رحمه الله - للتقادم تقديرا ، وفوض ذلك إلى اجتهاد كل حاكم في زمانه ، فإنه روي عن أبي يوسف - رحمه الله - أنه قال : كان أبو حنيفة - رحمه الله - لا يوقت في التقادم شيئا ، وجهدنا به أن يوقت ; فأبى ، وأبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - قدراه بشهر فإن كان شهرا أو أكثر - فهو متقادم ، وإن كان دون شهر - فليس بمتقادم ; لأن الشهر أدنى الأجل فكان ما دونه في حكم العاجل .

                                                                                                                                ولأبي حنيفة - رحمه الله - أن التأخير قد يكون لعذر ، والأعذار في اقتضاء التأخير مختلفة فتعذر التوقيت فيه ; ففوض إلى اجتهاد القاضي فيما يعد إبطاء وما لا يعد ، وإذا لم تقبل شهادة الشهود بزنا متقادم هل يحدون حد القذف ؟ حكى الحسن بن زياد أنهم يحدون ، وتأخيرهم محمول على اختيار جهة الستر ، فخرج كلامهم عن كونه شهادة ; فبقي قذفا فيوجب الحد ، وقال الكرخي - رحمه الله - الظاهر أنه لا يجب عليهم الحد ، وهكذا ذكر القاضي في شرحه أنه لا حد عليهم ; لأن تأخيرهم وإن أورث تهمة وشبهة في الشهادة - فأصل الشهادة باق ، فلما اعتبرت الشبهة في إسقاط حد الزنا عن المشهود عليه ، فلأن تعتبر حقيقة الشهادة لإسقاط حد القذف عن الشهود أولى .

                                                                                                                                ( ومنها ) قيام الرائحة وقت أداء الشهادة في حد الشرب في قولهما .

                                                                                                                                وعند محمد ليس بشرط ، والحجج ستأتي في موضعها .

                                                                                                                                ( ومنها ) عدد الأربع في الشهود في حد الزنا ; لقوله عز اسمه { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } وقوله سبحانه وتعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } وقوله تبارك وتعالى { لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء } ; ولأن الشهادة أحد نوعي الحجة فيعتبر بالنوع الآخر ; وهو الإقرار ، وهناك عدد الأربع شرط .

                                                                                                                                كذا ههنا ، بخلاف سائر الحدود فإن عدد الأقارير الأربع لم يشترط فيها ، فكذا عدد الأربع من الشهود ; ولأن اشتراط عدد الأربع في الشهادة يثبت معدولا به عن القياس بالنص ، والنص ورد في الزنا خاصة فإن شهد على الزنا أقل من أربعة لم تقبل شهادتهم ; لنقصان العدد المشروط ، وهل يحدون حد القذف ؟ قال أصحابنا : يحدون .

                                                                                                                                وقال الشافعي - رحمه الله - إذا جاءوا مجيء الشهود - لم يحدوا ، وعلى هذا الخلاف إذا شهد ثلاثة ، وقال الرابع : رأيتهما في لحاف واحد ولم يزد عليه - أنه يحد الثلاثة عندنا ولا حد على الرابع ; لأنه لم يقذف إلا إذا كان قال في الابتداء : أشهد أنه قد زنى ، ثم فسر الزنا بما ذكر فحينئذ يحد .

                                                                                                                                ( وجه ) قول الشافعي - رحمه الله - أنهم إذا جاءوا مجيء الشهود كان قصدهم إقامة الشهادة حسبة لله - تعالى - لا القذف ، فلم يكن جناية فلم يكن قذفا .

                                                                                                                                ( ولنا ) ما روي أن ثلاثة شهدوا على مغيرة بالزنا ، فقام الرابع وقال : رأيت أقداما بادية ونفسا عاليا وأمرا منكرا ، ولا أعلم ما وراء ذلك ، فقال سي دنا عمر رضي الله عنه له : الحمد لله الذي لم يفضح رجلا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وحد الثلاثة ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر فيكون إجماعا ; ولأن الموجود من الشهود كلام قذف حقيقة ، إذ القذف هو النسبة إلى الزنا وقد وجد من الشهود حقيقة ، فيدخلون تحت آية القذف ، إلا أنا اعتبرنا تمام عدد الأربع إذا جاءوا مجيء الشهود فقد قصدوا إقامة الحسبة واجبا ; حقا لله [ ص: 48 ] تعالى فخرج كلامهم عن كونه قذفا وصار شهادة شرعا ، فعند النقصان بقي قذفا حقيقة فيوجب الحد .

                                                                                                                                ولو شهد ثلاثة على الزنا ، وشهد رابع على شهادة غيره - تحد الثلاثة ; لأن شهادتهم صارت قذفا ; لنقصان العدد ، ولا حد على الرابع ; لأنه لم يقذف بل حكى قذف غيره ، ولو علم أن أحد الأربع عبد أو مكاتب أو صبي أو أعمى أو محدود في قذف - حدوا جميعا ; لأن الصبي والعبد ليست لهما أهلية الشهادة أصلا ورأسا ، فانتقص العدد فصار كلامهم قذفا ، والأعمى والمحدود في القذف ليست لهم أهلية الشهادة ، أو إن كانت لهم أهلية الشهادة تحملا وسماعا فقصرت أهليتهما للشهادة فانتقص العدد فصار كلامهم قذفا ، وسواء علم ذلك قبل القضاء أو بعد القضاء قبل الإمضاء ، وإن علم ذلك بعد الإمضاء فإن كان الحد جلدا - فكذلك يحدون ولا يضمنون أرش الضرب في قول أبي حنيفة ، وعندهما يجب في بيت المال على ما ذكرنا في كتاب الرجوع عن الشهادات ، وإن كان رجما - لا يحدون ; لأنه تبين أن كلامهم وقع قذفا ومن قذف حيا ، ثم مات المقذوف - سقط الحد ، وتكون الدية في بيت المال ; لأن الخطأ حصل من القاضي ، وخطأ القاضي على بيت المال ; لأنه عامل لعامة المسلمين وبيت المال مال المسلمين .

                                                                                                                                ولو شهد الزوج وثلاثة نفر - حد الثلاثة ولاعن الزوج امرأته ; لأن قذف الزوج يوجب اللعان لا الحد ، فانتقص العدد في حق الباقين ، فصار كلامهم قذفا ; فيحدون حد القذف .

                                                                                                                                ولو علم أن الشهود الأربعة عبيد أو كفار أو محدودون في قذف أو عميان - يحدون حد القذف ، وإن علم أنهم فساق - لا يحدون ، والفرق ما ذكرنا أن العبد والكافر لا شهادة لهما أصلا ، والأعمى والمحدود في القذف لهما شهادة سماعا وتحملا لا أداء ، فكان كلامهم قذفا ، والفاسق له شهادة على أصل أصحابنا سماعا ، وإذا كان كلام الفاسق شهادة لا قذفا فلا يحدون حد القذف ، والله تعالى أعلم ولو ادعى المشهود عليه أن أحد الشهود الأربعة عبد - فالقول قوله ، حتى يقيم البينة أنه حر ; لما روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال : الناس أحرار إلا في أربع : الشهادة والقصاص والعقل والحدود ، والمعنى فيه ما ذكرنا في غير موضع .

                                                                                                                                ( ومنها ) اتحاد المجلس ، وهو أن يكون الشهود مجتمعين في مجلس واحد عند أداء الشهادة ، فإن جاءوا متفرقين - يشهدون واحدا بعد واحد ، لا تقبل شهادتهم ، ويحدون وإن كثروا ; لما ذكرنا أن كلامهم قذف حقيقة ، وإنما يخرج عن كونه قذفا شرعا بشرط أن يكونوا مجتمعين في مجلس واحد وقت أداء الشهادة ، فإذا انعدمت هذه الشريطة - بقي قذفا فيوجب الحد ، حتى لو جاءوا مجتمعين أو متفرقين ، وقعدوا في موضع الشهود في ناحية من المسجد ، ثم جاءوا واحدا بعد واحد وشهدوا - جازت شهادتهم ; لوجود اجتماعهم في مجلس واحد وقت الشهادة ، إذ المسجد كله مجلس واحد ، وإن كانوا خارجين من المسجد ، فجاء واحد منهم ودخل المسجد وشهد ، ثم جاء الثاني والثالث والرابع - يضربون الحد ، وإن كانوا مثل ربيعة ومضر ، هكذا روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال : لو جاء ربيعة ومضر فرادى - لحددتهم عن آخرهم ، وإنما قال ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ، ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد منهم ; فيكون إجماعا منهم ، والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                                ( ومنها ) أن يكون المشهود عليه بالزنا ممن يتصور منه الوطء ، فإن كان ممن لا يتصور منه كالمجبوب - لا تقبل شهادتهم ويحدون حد القذف .

                                                                                                                                ولو كان المشهود عليه خصيا أو عنينا - قبلت شهادتهم ويحد ; لتصور الزنا منهما ; لقيام الآلة - بخلاف المجبوب - ( ومنها ) أن يكون المشهود عليه بالزنا ممن يقدر على دعوى الشبهة ، فإن كان ممن لا يقدر كالأخرس - لا تقبل شهادتهم ; لأن من الجائز أنه لو كان قادرا لادعى شبهة ، ولو كان المشهود عليه بالزنا أعمى قبلت شهادتهم ; لأن الأعمى قادر على دعوى الشبهة لو كانت عنده شبهة .

                                                                                                                                ولو شهدوا بالزنا ، ثم قالوا : تعمدنا النظر إلى فرجها - لا تبطل شهادتهم ; لأن أداء الشهادة لا بد له من التحمل ، ولا بد للتحمل من النظر إلى عين الفرج ، ويباح لهم النظر إليها لقصد إقامة الحسبة ، كما يباح للطبيب لقصد المعالجة ، ولو قالوا : نظرنا مكررا - بطلت شهادتهم ; لأنه سقطت عدالتهم ، والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                                ( ومنها ) اتحاد الشهود ، وهو أن يجمع الشهود الأربعة على فعل واحد فإن اختلفوا - لا تقبل شهادتهم ، وعلى هذا يخرج ما إذا شهد اثنان أنه زنى في مكان كذا ، وشهد آخران أنه زنى في مكان آخر ، والمكانان متباينان ; بحيث يمتنع أن يقع فيهما فعل واحد عادة ، كالبلدين والدارين والبيتين - لا تقبل شهادتهم ولا حد على المشهود عليه ; لأنهم شهدوا بفعلين مختلفين لاختلاف المكانين ، وليس [ ص: 49 ] على أحدهما شهادة الأربع ولا حد على الشهود أيضا عند أصحابنا ، وعند زفر يحدون .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن عدد الشهود قد انتقص ; لأن كل فريق شهد بفعل غير الذي شهد به الفريق الآخر ، ونقصان عدد الشهود يوجب صيرورة الشهادة قذفا ، كما لو شهد ثلاثة بالزنا .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن المشهود به لم يختلف عند الشهود ; لأن عندهم أن هذا زنا واحد ، وإنما وقع اختلافهم في المكان فثبت بشهادتهم شبهة اتحاد الفعل ; فيسقط الحد ، وعلى هذا إذا اختلفوا في الزمان فشهد اثنان أنه زنى بها في يوم كذا ، واثنان في يوم آخر ، ولو شهد اثنان أنه زنى في هذه الزاوية من البيت ، وشهد اثنان أنه زنى في هذه الزاوية الأخرى منه - يحد المشهود عليه ; لجواز أن ابتداء الفعل وقع في هذه الزاوية من البيت وانتهاؤه في زاوية أخرى منه ; لانتقالهما منه واضطرابهما فلم يختلف المشهود به فتقبل شهادتهم ، حتى لو كان البيت كبيرا لا تقبل ; لأنه يكون بمنزلة البيتين ، ولو شهد أربعة بالزنا بامرأة ، فشهد اثنان أنه استكرهها ، واثنان أنها طاوعته - لا حد على المرأة بالإجماع ; لأن الحد لا يجب إلا بالزنا طوعا ولم تثبت الطواعية في حقها ، ( وأما ) الرجل فلا حد عليه أيضا عند أبي حنيفة - رحمه الله ، وعندهما يحد .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما أن زنا الرجل عن طوع ثبت بشهادة الأربع ، إلا أنه تفرد اثنان منهم بإثبات زيادة الإكراه منه ، وأنه لا يمنع وجوب الحد ، كما لو زنى بها مستكرهة ، ولأبي حنيفة - عليه الرحمة - أن المشهود قد اختلف ; لأن فعل المكره غير فعل من ليس بمكره فقد شهدوا بفعلين مختلفين ، وليس على أحدهما شهادة الأربع فلا يحد المشهود عليه ولا الشهود عند أصحابنا الثلاثة ، خلافا لزفر وقد مر الكلام فيه في اختلافهم في المكان والزمان ، والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                                ثم الشهود إذا استجمعوا شرائط صحة الشهادة ، وشهدوا عند القاضي سألهم القاضي عن الزنا ما هو وكيف هو ومتى زنى وأين زنى وبمن زنى ؟ أما السؤال عن ماهية الزنا ; فلأنه يحتمل أنهم أرادوا به غير الزنا المعروف ; لأن اسم الزنا يقع على أنواع لا توجب الحد ، قال عليه الصلاة والسلام : " العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه .

                                                                                                                                " وأما السؤال عن الكيفية ; فلأنه يحتمل أنهم أرادوا به الجماع فيما دون الفرج ; لأن ذلك يسمى جماعا حقيقة أو مجازا فإنه لا يوجب الحد .

                                                                                                                                وأما السؤال عن الزمان ; فلأنه يحتمل أنهم شهدوا بزنا متقادم ، والتقادم يمنع قبول الشهادة بالزنا ، وأما السؤال عن المكان ; فلأنه يحتمل أنه زنى في دار الحرب أو في دار البغي ، وأنه لا يوجب الحد ، وأما السؤال عن المزني بها ; فلأنه يحتمل أن تكون الموطوءة ممن لا يجب الحد بوطئها كجارية الابن وغير ذلك ، فإذا سألهم القاضي عن هذه الجملة - فوصفوا ، سأل المشهود عليه أهو محصن أم لا ؟ فإن أنكر الإحصان ، وشهد على الإحصان رجلان أو رجل وامرأتان على الاختلاف - سأل الشهود عن الإحصان ما هو ; لأن له شرائط يجوز أن تخفى على الشهود ، فإذا وصفوا - قضي بالرجم ولو شهدت بينة الإحصان أنه جامعها أو باضعها - صار محصنا ; لأن هذا اللفظ في العرف مستعمل في الوطء في الفرج ، ولو شهدوا أنه دخل بها - صار محصنا ، وهذا وقوله جامعها سواء في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - وقال محمد - رحمه الله - لا يصير محصنا .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن هذا اللفظ يستعمل في الوطء ويستعمل في الزفاف ، فلا يثبت الإحصان مع الاحتمال ، ولهما أن الدخول بالمرأة في عرف اللغة والشرع يراد به الوطء ، قال الله - تعالى عز شأنه - { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } حرم - سبحانه وتعالى - الربيبة بشرط الدخول بأمها ، فعلم أن المراد من الدخول هو الوطء ; لأنها تحرم بمجرد نكاح الأم من غير وطء ، وذكر القاضي في شرحه الاختلاف على القلب فقال على قول أبي حنيفة - رحمه الله : لا يصير محصنا ما لم يصرح بالوطء ، وعلى قول محمد - رحمه الله - يصير محصنا ، ولو شهدوا على الدخول وكان له منها ولد - هو محصن بالإجماع ، وكفى بالولد شاهدا ، والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية