الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) الذي يخص البعض دون البعض فمنها : عدد الأربع في حد الزنا خاصة ، وهو أن يقر أربع مرات ، وهذا عندنا ، وعند الشافعي - عليه الرحمة - ليس بشرط ، ويكتفى بإقراره مرة واحدة .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن الإقرار إنما صار حجة في الشرع لرجحان جانب الصدق فيه على جانب الكذب ، وهو المعنى عند التكرار والتوحد سواء ; لأن الإقرار إخبار والخبر لا يزيد رجحانا بالتكرار ، ولهذا لم يشترط في سائر الحدود ، بخلاف عدد المثنى في الشهادة ; لأن ذلك يوجب زيادة ظن عليه فيها ، إلا أن شرط العدد الأربع في باب الزنا تعبد فيقتصر على موضع التعبد .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن القياس ما قاله ، إلا أنا تركنا القياس بالنص وهو ما روي { أن ماعزا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقر بالزنا فأعرض عنه عليه الصلاة والسلام بوجهه الكريم ، هكذا إلى الأربع ، فلو كان الإقرار مرة مظهرا للحد لما أخره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأربع } ; لأن الحد بعد ما ظهر وجوبه للإمام لا يحتمل التأخير .

                                                                                                                                ( وأما ) العدد في الإقرار بالقذف فليس بشرط بالإجماع ، وهل يشترط في الإقرار بالسرقة والشرب والسكر ؟ قال أبو حنيفة - رحمه الله : ليس بشرط .

                                                                                                                                وقال أبو يوسف - رحمه الله : إنه كلما يسقط بالرجوع فعدد الإقرار فيه كعدد الشهود وذكر الفقيه أبو الليث - رحمه الله : إن عند أبي يوسف يشترط الإقرار مرتين في مكانين .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن حد السرقة والشرب والسكر خالص حق الله - تعالى - كحد الزنا ، فتلزم مراعاة الاحتياط فيه باشتراط العدد كما في الزنا ، إلا أنه يكتفى ههنا بالمرتين ، ويشترط الأربع هناك استدلالا بالبينة ; لأن السرقة والشرب كل واحد منهما يثبت بنصف ما يثبت به الزنا ; وهو شهادة شاهدين ، فكذلك الإقرار ، ولهما أن الأصل أن لا يشترط التكرار في الإقرار ; لما ذكرنا أنه إخبار والمخبر لا يزداد بتكرار الخبر ، وإنما عرفنا عدد الأربع في باب الزنا بنص غير معقول المعنى ; فيقتصر على مورد النص ، ومنها عدد المجالس فيه ، وهو أن يقر أربع مجالس ، واختلف المشايخ في أنه يعتبر مجالس القاضي أو مجالس المقر ، والصحيح أنه يعتبر مجالس المقر ، وهكذا روي عن أبي حنيفة أنه يعتبر مجالس المقر ; لأنه عليه الصلاة والسلام اعتبر اختلاف مجالس ماعز ، حيث كان يخرج من المسجد في كل مرة ، ثم يعود ومجلسه عليه الصلاة والسلام لم يختلف ، وقد روي عن أبي حنيفة في تفسير اختلاف مجالس المقر : هو أن يقر مرة ، ثم يذهب حتى يتوارى عن بصر القاضي ، ثم يجيء فيقر ثم يذهب ، هكذا أربع مرات ، ومنها أن يكون إقراره بين يدي الإمام فإن كان عند غيره - لم يجز إقراره ; لأن إقرار ماعز كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                ولو أقر في غير مجلس القاضي وشهد الشهود على إقراره لا تقبل شهادتهم ; لأنه إن كان مقرا فالشهادة لغو ; لأن الحكم للإقرار لا للشهادة ، وإن كان منكرا فالإنكار منه رجوع ، والرجوع عن الإقرار في الحدود الخالصة حقا لله - عز وجل - صحيح ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                ومنها الصحة في الإقرار بالزنا والسرقة والشرب والسكر حتى لو كان سكران - لا يصح إقراره ، أما على أصل أبي حنيفة - رحمه الله - فلأن السكران : من صار بالشرب إلى حال لا يعقل قليلا ولا كثيرا فكان عقله زائلا مستورا حقيقة .

                                                                                                                                وأما على أصلهما ; فلأنه إذا غلب الهذيان على كلامه ; فقد ذهبت منفعة العقل ، ولهذا لم تصح ردته فيورث ذلك شبهة في وجوب الحد ، وليس بشرط في الإقرار بالحدود والقصاص ; لأن القصاص خالص حق العبد ، وللعبد حق في حد القذف ; فيصح مع السكر كالإقرار بالمال وسائر التصرفات ، وإذا صحا فإن دام على إقراره - تقام عليه الحدود كلها ، وإن أنكره فالإنكار منه رجوع فيصح في الحدود الخالصة وهو حد الزنا والشرب والسرقة في حق القطع ، ولا يصح في القذف والقتل العمد ، والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                                ومنها : أن يكون الإقرار بالزنا ممن يتصور وجود الزنا منه ، فإن كان لا يتصور كالمجبوب - لم يصح إقراره ; لأن الزنا لا يتصور منه ; لانعدام [ ص: 51 ] الآلة ، ويصح إقرار الخصي والعنين لتصور الزنا منهما ; لتحقق الآلة ، والذي يجن ويفيق إذا أقر في حال إفاقته - فهو مثل الصحيح ; لأنه في حال إفاقته صحيح ، ومنها : أن يكون المزني به في الإقرار بالزنا ممن يقدر على دعوى الشبهة ، فإن لم يكن بأن أقر رجل أنه زنى بامرأة خرساء أو أقرت امرأة أنها زنت بأخرس - لم يصح إقراره ; لأن من الجائز أنه لو كان يقدر على النطق ; لادعى النكاح أو أنكر الزنا ولم يدع شيئا فيندرئ عنه الحد ; لما نذكر في موضعه - إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                وأما حضرة المزني بها في الإقرار بالزنا والشهادة عليه فليست بشرط ، حتى لو أقر أنه زنى بامرأة غائبة أو شهد عليه الشهود بالزنا بامرأة غائبة - صح الإقرار وقبلت الشهادة ويقام الحد على الرجل ; لأن الغائب بالغيبة ليس إلا الدعوى وإنها ليست بشرط ; ولهذا رجم ماعز من غير شرط حضور تلك المرأة ، وكذلك العلم بالمزني بها ثم إذا صح إقراره بالزنا بامرأة غائبة يعرفها ، فحضرت المرأة فلا يخلو إما أن حضرت قبل إقامة الحد على الرجل ، وإما أن حضرت بعد الإقامة ، فإن حضرت بعد الإقامة ، فإن أقرت بمثل ما أقر به الرجل - تحد أيضا كما حد الرجل ، وإن أنكرت وادعت على الرجل حد القذف - لا يحد الرجل حد القذف ; لأنه لا يجب عليه حدان ، وقد أقيم أحدهما فلا يقام الآخر .

                                                                                                                                وإن حضرت قبل إقامة الحد على الرجل فإن أنكرت الزنا وادعت النكاح أو لم تدع ، وادعت حد القذف على الرجل أو لم تدع فحكمه نذكره في موضعه - إن شاء الله تعالى ، والعلم بالمزني بها ليس بشرط لصحة الإقرار ، حتى لو قال : زنيت بامرأة ولا أعرفها - صح إقراره ويحد والعلم بالمشهود به شرط صحة الشهادة ، حتى لو شهد الشهود على رجل أنه زنى بامرأة وقالوا : لا نعرفها - لا تقبل شهادتهم ولا يقام الحد على المشهود عليه ، والفرق أن المقر في الإقرار على نفسه يبني الأمر على حقيقة الحال - خصوصا في الزنا ، فكان إقراره إخبارا عن وجود الزنا منه حقيقة ، إلا أنه لم يعرف اسم المرأة ونسبها وذا لا يورث شبهة ، فأما الشاهد فإنه بشهادته بنى الأمر على الظاهر لا على الحقيقة ; لقصور علمه عن الوصول إلى الحقيقة ، فقولهم : لا نعرف تلك المرأة يورث شبهة ; لجواز أنها امرأته أو امرأة له فيها شبهة حل أو ملك ، فهو الفرق ، والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                                وأما عدم التقادم فهل هو شرط لصحة الإقرار بالحد ؟ أما في حد القذف فليس بشرط ; لأنه ليس بشرط لقبول الشهادة ، فأولى أن لا يكون شرطا لصحة الإقرار ، وكذلك في حد الزنا عند أصحابنا الثلاثة ، وعند زفر - رحمه الله - كما في الشهادة .

                                                                                                                                ( ولنا ) الفرق بين الإقرار والشهادة ، وهو أن المانع في الشهادة تمكن التهمة والضغينة ، وهذا لا يوجد في الإقرار ; لأن الإنسان غير متهم في الإقرار على نفسه وكذا في حد السرقة ; لما قلنا .

                                                                                                                                وأما في حد الشرب فشرط عندهما ، وعند محمد - رحمه الله - ليس بشرط ; بناء على أن قيام الرائحة شرط صحة الإقرار والشهادة عندهما ، ولهذا لا يبقى مع التقادم ، وعنده ليس بشرط ولو لم يتقادم العهد ، ولكن ريحها لا يوجد منه - لم يصح الإقرار عندهما ، خلافا له .

                                                                                                                                ( وجه ) قول محمد - رحمه الله - أن حد الشرب ليس بمنصوص عليه في الكتاب والسنة ، وإنما عرف بإجماع الصحابة ، وإجماعهم لا ينعقد بدون عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ولم يثبت فتواه عند زوال الرائحة ، فإنه روي أن رجلا جاء بابن أخ له إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاعترف عنده بشرب الخمر ، فقال له عبد الله : بئس ولي اليتيم أنت ، لا أدبته صغيرا ولا سترت عليه كبيرا ، ثم قال رضي الله عنه : تلتلوه ومزمزوه واستنكهوه ، فإن وجدتم رائحة الخمر - فاجلدوه ، وأفتى رضي الله عنه بالحد عند وجود الرائحة .

                                                                                                                                ولم يثبت فتواه عند عدمها ، وإذا لم يثبت فلا ينعقد الإجماع بدونه ، فلا يجب بدونه ; لأن وجوبه بالإجماع ، ولا إجماع ، ثم إنما تعتبر الرائحة إذا لم يكن سكران ، فأما إذا كان سكرانا - فلا ; لأن السكر أدل على الشرب من الرائحة ، ولذلك لو جيء به من مكان بعيد لا تبقى الرائحة بالمجيء من مثله عادة - يحد ، وإن لم توجد الرائحة للحال ; لأن هذا موضع العذر فلا يعتبر قيام الرائحة فيه ، والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                                وإذا أقر إنسان بالزنا عند القاضي ; ينبغي أن يظهر الكراهة أو يطرده ، وكذا في المرة الثانية والثالثة هكذا فعل عليه الصلاة والسلام بماعز ، وكذا روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال : " اطردوا المعترفين " .

                                                                                                                                أي بالزنا ، فإذا أقر أربعا نظر في حاله أهو صحيح العقل أم به آفة ؟ هكذا قال عليه الصلاة والسلام لماعز أبك خبل أم بك جنون ؟ وبعث إلى قومه فسألهم عن حاله .

                                                                                                                                فإذا عرف أنه صحيح العقل سأله عن ماهية الزنا وعن كيفيته وعن مكانه وعن المزني بها ; لما ذكرنا في الشهادة ، [ ص: 52 ] ولا يسأله عن الزمان ; لأن السؤال عن الزمان لمكان احتمال التقادم ، والتقادم في الإقرار ، وإنما يقدح في الشهادة ويجوز أن يسأل عن الزمان أيضا ; لاحتمال أنه زنى في حال الصغر ، فإذا بين ذلك كله - سأله عن حاله أهو محصن أم لا ؟ لأن حكم الزنا يختلف بالإحصان وعدمه ، فإن قال : أنا محصن - سأله عن ماهية الإحصان أنه ما هو ؟ لأنه عبارة عن اجتماع شرائط لا يقدر عليها كل أحد فإذا بين رجمه .

                                                                                                                                وأما علم القاضي فلا يظهر به حد الزنا والشرب والسكر والسرقة ; حتى لا يقضي بشيء من ذلك بعلمه ، لكنه يقضي بالمال في السرقة ; لأن القاضي يقضي بعلمه في الأموال ، سواء علم بذلك قبل زمان القضاء ومكانه أو بعدهما بلا خلاف بين أصحابنا ، وسواء علم بذلك معاينة بأن رأى إنسانا يزني ويشرب ويسرق ، أو بسماع الإقرار به في غير مجلسه الذي يقضي فيه بين الناس ، فإن كان إقراره في مجلس القضاء - لزمه موجب إقراره ، إذ لو لم يقبل إقراره - لاحتاج القاضي إلى أن يكون معه جماعة على الإقرار في كل حادثة ، وإجماع الأمة بخلافه ، والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                                ويظهر به حد القذف في زمان القضاء ومكانه كالقصاص وسائر الحقوق والأموال بلا خلاف بين أصحابنا ، وإنما اختلفوا في ظهور ذلك بعلمه في غير زمان القضاء ومكانه ، وقد ذكرنا جملة ذلك بدلائله في كتاب آداب القاضي ، ولا يظهر حد السرقة بالنكول ، لكنه يقضي بالمال ; لأن النكول إما بدل ، وإما إقرار فيه شبهة العدم ، والحد لا يحتمل البدل ولا يثبت بالشبهة ، والمال يحتمل البدل والثبوت بالشبهة .

                                                                                                                                وأما الخصومة فهل هي شرط ثبوت الحد بالشهادة والإقرار ؟ فلا خلاف في أنها ليست بشرط في حد الزنا والشرب ; لأنه خالص حق الله - عز وجل - والخصومة ليست بشرط في الحدود الخالصة لله تعالى ; لأنها تقام حسبة لله - تعالى - فلا يتوقف ظهورها على دعوى العبد .

                                                                                                                                ولا خلاف في حد السرقة أن الخصومة فيها شرط الظهور بالشهادة ; لأن حد السرقة وإن كان حق الله تعالى خالصا ، لكن هذا الحق لا يثبت إلا بعد كون المسروق ملكا للمسروق منه ، ولا يظهر ذلك إلا بالخصومة ، وفي كونها شرط الظهور بالإقرار خلاف ذكرناه في كتاب السرقة ، ولا خلاف أيضا في أنها شرط الظهور بالشهادة على القذف والإقرار به ، أما على أصل الشافعي - رحمه الله - فلأنه خالص حق العبد ، فيشترط فيه الدعوى كما في سائر حقوق العباد ، وعندنا حق الله تعالى عز شأنه - وإن كان هو المغلب فيه ، لكن للعبد فيه حق ; لأنه ينتفع به بصيانة عرضه عن الهتك ، فيشترط فيه الدعوى عن هذه الجهة وإذا عرف أن الخصومة في حد القذف شرط كون النية والإقرار مظهرين فيه فيقع الكلام في موضعين : أحدهما - في بيان الأحكام التي تتعلق بالدعوى والخصومة ، والثاني - في بيان من يملك الخصومة ومن لا يملكها ، أما الأول - فنقول - ولا قوة إلا بالله تعالى : الأفضل للمقذوف أن يترك الخصومة ; لأن فيها إشاعة الفاحشة وهو مندوب إلى تركها ، وكذا العفو عن الخصومة والمطالبة التي هي حقها من باب الفضل والكرامة .

                                                                                                                                وقد قال الله تعالى { وأن تعفو أقرب للتقوى } ، وقال سبحانه وتعالى { ولا تنسوا الفضل بينكم } ، وإذا رفع إلى القاضي يستحسن للقاضي أن يقول قبل الإتيان بالبينة : أعرض عن هذا ; لأنه ندب إلى الستر والعفو ، وكل ذلك حسن ، فإذا لم يترك الخصومة ، وادعى القذف على القاذف ، فأنكر ولا بينة للمدعي فأراد استحلافه بالله تعالى ما قذفه ، هل يحلف ؟ ذكر الكرخي - عليه الرحمة - أنه لا يحلف عند أصحابنا ، خلافا للشافعي - رحمه الله - وذكر في آداب القاضي أنه يحلف في ظاهر الرواية عندهم ، وإذا نكل - يقضي عليه بالحد ، وقال بعضهم : يحتمل أن يحلف ، فإذا نكل يقضي عليه بالتعزير لا بالحد .

                                                                                                                                وهذه الأقاويل ترجع إلى أصل وهو أن عند الشافعي - رحمه الله - حد القذف خالص حق العبد ، فيجري فيه الاستحلاف كما في سائر حقوق العباد .

                                                                                                                                وأما على أصل أصحابنا ففيه حق الله تعالى - عز وجل - وحق العبد فمن قال منهم : إنه يحلف ويقضي بالحد عند النكول اعتبر ما فيه من حق العبد فألحقه في التحليف بالتعزير ، ومن قال منهم : إنه لا يحلف أصلا اعتبر حق الله سبحانه وتعالى فيه ; لأنه المغلب ، فألحقه بسائر حقوق الله - سبحانه وتعالى - الخالصة ، والجامع أن المقصود من الاستحلاف هو النكول ، وأنه على أصل أبي حنيفة عليه الرحمة بدل ، والحد لا يحتمل البدل ، وعلى أصلهما إقرار فيه شبهة العدم ; لأنه ليس بصريح إقرار ، بل هو إقرار بطريق السكوت ، فكان فيه شبهة العدم ، والحد لا يثبت بدليل فيه شبهة العدم ، ومن قال منهم .

                                                                                                                                إنه يحلف ويقضي عليه بالتعزير عند النكول [ ص: 53 ] دون الحد ، اعتبر حق العبد فيه للاستحلاف كالتعزير واعتبر حق الله سبحانه وتعالى للمنع من إقامة الحد عند النكول كسائر الحدود ، ومثل هذا جائز كحد السرقة أنه يجري فيه الاستحلاف ، ولا يقضي عند النكول بالحد ، ولكن يقضي بالمال ، وكما قال أبو يوسف ومحمد - عليهما الرحمة - في القصاص في الطرف والنفس : إنه يحلف ، وعند النكول لا يقضي بالقصاص بل بالدية على ما عرف ، وإن قال المدعي : لي بينة حاضرة في المصر على قذفه - يحبس المدعى عليه القذف إلى قيام الحاكم من مجلسه .

                                                                                                                                والمراد من الحبس الملازمة أي يقال للمدعي : لازمه إلى هذا الوقت ، فإن أحضر البينة فيه وإلا خلي سبيله ، ولا يؤخذ منه كفيل بنفسه ، هذا قول أبي حنيفة - رحمه الله - وعندهما يؤخذ منه الكفيل ، وهذا بناء على أن الكفالة في الحدود غير جائزة عند أبي حنيفة - رحمه الله - حيث قال في الكتاب : ولا كفالة في حد ولا قصاص ، وعندهما يكفل ثلاثة أيام ، وذكر الجصاص في تفسير قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن معناه لا يؤخذ الكفيل في الحدود والقصاص جبرا ، فأما إذا بذل من نفسه وأعطى الكفيل - فهو جائز بالإجماع ، وظاهر إطلاق الكتاب يدل على عدم الجواز عنده ; لأن كلمة النفي إذا دخلت على الأفعال الشرعية ; يراد بها نفي الجواز من الأصل كما في قوله عليه الصلاة والسلام { لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بشهود } ونحو ذلك .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما أن الحبس جائز في الحدود ، فالكفالة أولى ; لأن معنى الوثيقة في الحبس أبلغ منه في الكفالة ، فلما جاز الحبس فالكفالة أحق بالجواز ، ولأبي حنيفة رحمه الله أن الكفالة شرعت للاستيثاق ، والحدود مبناها على الدرء والإسقاط ، قال عليه الصلاة والسلام : { ادرءوا الحدود ما استطعتم } .

                                                                                                                                فلا يناسبها الاستيثاق بالكفالة ، بخلاف الحبس فإن الحبس للتهمة مشروع ، روي { أنه عليه الصلاة والسلام حبس رجلا بالتهمة } وقد ثبتت التهمة في هذه المسألة بقوله : لي بينة حاضرة في المصر ، فجاز الحبس فإذا أقام المدعي شاهدين لا يعرفهما القاضي - أي لم تظهر عدالتهما بعد الحبس - فلا خلاف ، ولا يؤخذ منه كفيل ، وإن أقام شاهدا واحدا عدلا حبس عند أبي حنيفة - رحمه الله ، وعندهما لا يحبس ويؤخذ منه كفيل .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما أن الحق لا يظهر بقول الواحد وإن كان عدلا ، فالحبس من أين بخلاف الشاهدين ؟ فإن سبب ظهور الحق قد وجد وهو كمال عدد الحجة ، إلا أن توقف الظهور لتوقف ظهور العدالة فثبتت الشبهة ; فيحبس .

                                                                                                                                ( وجه ) قول أبي حنيفة - رحمه الله - أن قول الشاهد الواحد وإن كان لا يوجب الحق فإنه يوجب التهمة ، وحبس المتهم جائز ، ولو قال المدعي : لا بينة لي أو بينتي غائبة أو خارج المصر - لا يحبس بالإجماع ; لعدم التهمة ، فإن قامت البينة للمقذوف على القذف ، أو أقر القاذف به فإن القاضي يقول له : أقم البينة على صحة قذفك .

                                                                                                                                فإن أقام أربعة من الشهود على معاينة الزنا من المقذوف أو على إقراره بالزنا - سقط الحد عن القاذف ، ويقام حد الزنا على المقذوف ، وإن عجز عن إقامة البينة - يقيم حد القذف على القاذف ; لقوله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } وإن طلب التأجيل من القاضي ، وقال : شهودي غيب ، أو خارج المصر - لم يؤجله ، ولو قال : شهودي في المصر أجله إلى آخر المجلس ، ولازمه المقذوف ، ويقال له : ابعث أحدا إلى شهودك فأحضرهم ، ولا يؤخذ منه كفيل بنفسه في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما يؤجل يومين أو ثلاثة ، ويؤخذ منه الكفيل .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما أنه يحتمل أن يكون صادقا في إخباره أن له بينة في المصر ، وربما لا يمكنه الإحضار في ذلك الوقت فيحتاج إلى التأخير إلى المجلس الثاني وأخذ الكفيل ; لئلا يفوت حقه عسى ، ولأبي حنيفة - رحمه الله - أن في التأجيل إلى آخر المجلس الثاني منعا من استيفاء الحد بعد ظهوره ، وهذا لا يجوز ، بخلاف التأخير إلى آخر المجلس ; لأن ذلك القدر لا يعد تأجيلا ولا منعا من استيفاء الحد بعد ظهوره .

                                                                                                                                وروي عن محمد - رحمه الله - أنه إذا ادعى أن له بينة حاضرة في المصر ولم يجد أحدا يبعثه إلى الشهود ، فإن القاضي يبعث معه من الشرط من يحفظه ولا يتركه حتى يقر ، فإن لم يجد - ضرب الحد ، ولو ضرب بعض الحد ثم أقام القاذف البينة على صدق مقالته - قبلت بينته وسقطت بينة الجلدات ، ولا تبطل شهادته ويقام حد الزنا على المقذوف ، كما لو أقامها قبل أن يضرب الحد أصلا ولو ضرب الحد بتمامه ، ثم أقام البينة على زنا المقذوف قبلت بينته ويظهر أثر القبول في جواز شهادة القاذف ، وأن لا يصير مردود الشهادة ; لأنه تبين أنه لم يكن [ ص: 54 ] محدودا في القذف حقيقة ، حيث تبين أن المقذوف لم يكن محصنا ; لأن من شرائط الإحصان العفة عن الزنا ، وقد ظهر زناه بشهادة الشهود ; فلم يصر القاذف مردود الشهادة ، ولا يظهر أثر قبول هذه الشهادة في إقامة حد الزنا على المقذوف ; لأن معنى القذف قد تقرر بإقامة الحد على القاذف .

                                                                                                                                ولو قذف رجلا فقال : يا ابن الزانية ، ثم ادعى القاذف أن أم المقذوف أمة أو نصرانية ، والمقذوف يقول : هي حرة مسلمة - فالقول قول القاذف ، وعلى المقذوف إقامة البينة على الحرية والإسلام ، .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية