الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الخمسون بين قاعدة التخيير بين شيئين وأحدهما يخشى من عقابه وبين قاعدة التخيير بين شيئين وأحدهما يخشى من عاقبته لا من عقابه ) هذا الموضع أشكل على جماعة من الفضلاء وتحريره وبسطه وتقرير الفرق بينهما بأن نقول :

أما القسم الأول فمتعذر الوقوع ولا يمكن أن يخير الله تعالى بين شيئين وأحدهما يخشى من عقابه ويقول الله تعالى إن فعلت هذا بعينه عافيتك فهذا لا يجتمع مع التخيير أبدا ، وأما ما يخشى من عاقبته فوقوع التخيير فيه ممكن واقع وقد وقع ذلك فمنها { ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء فجاءه جبريل عليه السلام بقدحين أحدهما لبن والآخر خمر فخيره بين شرب أيهما شاء فاختار اللبن فقال له جبريل عليه السلام اخترت الفطرة ولو اخترت الخمر لغوت أمتك } فقال جماعة من الفضلاء المغوي حرام والفطرة مطلوبة فكيف يخير عليه السلام بين الحرام والمطلوب وجوده ، ومما يؤكد أنه حرام أن السبب للضلال حرام وشرب هذا القدح سبب ضلال الأمة كما قال جبريل عليه السلام فيكون حراما ومع ذلك فقد وقع التخيير بينه وبين اللبن .

وهذا مشكل جدا فكيف يخير بين سبب الهداية وسبب الضلالة والجواب أن هذا من باب العاقبة لا من باب العقاب والممتنع هو الثاني دون الأول وبسطه أن العقاب يرجع إلى منع من الكلام النفساني فهو تحريم لا يجتمع مع الإباحة ؛ لأنه ضدها والعاقبة ترجع إلى أثر قدرة الله تعالى وقدره في الحوادث لا بخطابه وكلامه فلا مضادة بينهما وإنما يضاد الإذن من الكلام المنع من الكلام حتى يصير افعل لا تفعل ، أما أثر القدرة والقدر فلا يضاد الإذن بدليل أن الأمة مجمعة على أن الإنسان يخير بين سكنى هاتين الدارين مثلا أو تزوج إحدى هاتين المرأتين أو شراء إحدى هاتين الفرسين فإذا اختار أحدهما بمقتضى الإذن الشرعي الناشئ من الكلام النفساني أمكن أن يخبره المخبر عن الله تعالى أنك لو اخترت ما تركت من الدارين والمرأتين والفرسين لكان ذلك سبب ضلالك وهلاك مالك وذريتك وغير ذلك من سوء العاقبة كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { إنما الشؤم في ثلاث المرأة والدار والفرس } وقال بحمله على ظاهره جماعة من العلماء وكما جاء في الحديث الآخر أنه لما { قيل له عليه السلام عن دار يا رسول الله سكناها والعدد وافر والمال كثير فذهب العدد والمال فقال عليه السلام دعوها ذميمة } ولو لم ترد هذه الأحاديث فإنا نجوز أن يفعل الله تعالى ذلك [ ص: 13 ] في بعض الأشياء التي نلابسها ويجعل عاقبتها رديئة ومع ذلك لا ينافي ذلك التخيير الثابت بمقتضى الشرع الكائن في جميع هذه الصور وكذلك التخيير الواقع بين القدحين ليلة الإسراء وهو محقق ولم يكن شيء من ذلك محرما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل مأذون بإقدامه عليهما ولو أقدم على ذلك القدح من الخمر لم يكن إثما ولا عقاب فيه نعم فيه سوء العاقبة وقد تقدم أنها ترجع إلى أثر القدرة والقدر وما يخلقه الله تعالى في الحوادث من الضر والنفع لا للمنع النفسي المناقض للتخيير فظهر الفرق بين التخيير مع سوء العاقبة واتضح معنى الحديث الذي استشكله جماعة كثيرة من الفضلاء وأنه لموضع إشكال لولا هذا الفرق والله أعلم .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

[ ص: 12 ] والفرق الخمسون قلت : ما قاله في هذين الفرقين صحيح والله أعلم



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الخمسون بين قاعدة التخيير بين شيئين وأحدهما يخشى من عقابه وبين قاعدة التخيير بين شيئين وأحدهما يخشى من عاقبته لا من عقابه ) حيث قالوا : يتعذر وقوع الأول وأنه لا يمكن أن يخير الله تعالى بين شيئين وأحدهما يخشى من عقابه إذ لا يجتمع العقاب على فعل المكلف أحد الأمور بعينه مع تخييره في فعل ما يختاره منها أبدا ، وقالوا : يمكن وقوع الثاني بل قد { وقع ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء فجاءه جبريل عليه السلام بقدحين أحدهما لبن والآخر خمر فخيره بين شرب أيهما شاء فاختار اللبن فقال له جبريل عليه السلام اخترت الفطرة ولو اخترت الخمر لغوت أمتك } وقد استشكل هذا الحديث جماعة كثيرة من الفضلاء بأن شرب هذا القدح من الخمر سبب ضلال الأمة كما قال جبريل عليه السلام والسبب للضلال حرام فيكون حراما فكيف يقع التخيير له عليه الصلاة والسلام بينه وهو حرام [ ص: 14 ] وسبب الضلالة وبين اللبن الذي هو الفطرة المطلوبة الوجود وسبب الهداية وسر الفرق بين هاتين القاعدتين الذي يتضح به معنى الحديث المذكور ويندفع عنه الإشكال المذكور هو أن العقاب لما كان يرجع إلى المنع الناشئ عن الكلام النفساني كان تحريما لا يجتمع مع الإباحة التي هي عبارة عن الإذن الشرعي الناشئ عن الكلام النفساني ؛ لأنه ضدها وأن العاقبة لما كانت ترجع إلى أثر قدره الله تعالى وقدره في الحوادث لا بخطابه وكلامه لم تكن بينها وبين الإذن الشرعي الناشئ عن الكلام مضادة بدليل أن الأمة مجمعة على أن الإنسان يخير بين سكنى هاتين الدارين أو تزويج إحدى هاتين المرأتين أو شراء إحدى هاتين الفرسين فإذا اختار أحدهما بمقتضى أن الشرعي الناشئ عن الكلام النفساني أمكن أن يخبر المخبر عن الله تعالى أنك لو اخترت ما تركت من الدارين والمرأتين والفرسين لكان ذلك سبب ضلالك وهلاك مالك وذريتك وغير ذلك من سوء العاقبة كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { إنما الشؤم في ثلاث المرأة والدار والفرس } .

وقال بحمله على ظاهره جماعة من العلماء وكما جاء في الحديث الآخر أنه { لما قيل له عليه السلام عن دار يا رسول الله سكناها والعدد وافر والمال كثير فذهب العدد والمال فقال عليه السلام دعوها ذميمة } بل ولو لم ترد هذه الأحاديث فإنا نجوز أن يفعل الله تعالى ذلك في بعض الأشياء التي تلابسها ويجعل عاقبتها رديئة قال تعالى { وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم } وذلك لا ينافي التخيير الثابت بمقتضى الشرع الكائن في جميع هذه الصور فلذا وقع تخييره صلى الله تعالى عليه وسلم بين القدحين ليلة الإسراء وهو محقق ولم يكن شيء منهما محرما على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بل مأذون بإقدامه عليهما ولو أقدم على ذلك القدح من الخمر لم يكن فيه إثم ولا عقاب نعم فيه سوء العاقبة وقد تقدم أنها ترجع إلى أثر القدرة والقدر وما يخلقه الله تعالى في الحوادث من الضرر والنفع لا للمنع النفسي المناقض للتخيير والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية