الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3560 (25) كتاب الصيد والذبائح

                                                                                              وما يحل أكله من الحيوان وما لا يحل

                                                                                              (1) باب

                                                                                              الصيد بالجوارح وشروطها

                                                                                              [ 1828 ] عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي، وأذكر اسم الله عليه. فقال: إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل. قلت: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس معها. قلت له: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ فقال: إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله.

                                                                                              وفي رواية: فإنه وقيذ فلا تأكله.

                                                                                              رواه أحمد (4 \ 258) والبخاري (5477) ومسلم (1929) (1 و 3) والترمذي (1465) والنسائي (7 \ 180) وابن ماجه (395). [ ص: 204 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 204 ] (25)

                                                                                              كتاب الصيد

                                                                                              الأصل في جواز الصيد على الجملة: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.

                                                                                              فأما الكتاب: فقوله تعالى: يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين [المائدة: 4] أي: وصيد ما علمتم، الآية. وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد [المائدة: 94] وقوله تعالى: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة [المائدة: 96].

                                                                                              وأما السنة: فصحيحها الأحاديث الآتية.

                                                                                              وأما الإجماع: فمعلوم.

                                                                                              والصيد: ذكاة في المتوحش طبعا، غير المقدور عليه، المأكول نوعه. والنظر فيه: في الصائد، والمصيد، والآلة التي يصاد بها. ولكل منها شروط يأتي ذكرها أثناء النظر في الأحاديث إن شاء الله تعالى.

                                                                                              [ ص: 205 ] (1 و 2) ومن باب الصيد بالجوارح وشروطها

                                                                                              قوله: ( إذا أرسلت كلبك المعلم ) تعليم الكلب وغيره مما يصاد به هو: تأديبه على الصيد، بحيث يأتمر إذا أمر، وينزجر إذا زجر، ولا يختلف في هذين الشرطين في الكلاب وما في معناها من سباع الوحوش.

                                                                                              واختلف فيما يصاد به من الطير، فالمشهور أن ذلك مشترط فيها، وذكر ابن حبيب : أنه لا يشترط أن تنزجر إذا زجرت; فإنه لا يتأتى ذلك فيها غالبا، فيكفي أنها إذا أمرت أطاعت.

                                                                                              قلت: والوجود يشهد للجمهور، بل الذي لا ينزجر نادر فيها، وقد شرط الشافعي ، وجمهور من العلماء في التعليم أن يمسك على صاحبه، ولا يأكل منه شيئا، ولم يشترطه مالك في المشهور عنه، وسيأتي.

                                                                                              وقد ألحق الجمهور بالكلب كل حيوان معلم يتأتى به الاصطياد تمسكا بالمعنى، وبما رواه الترمذي عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيد البازي فقال: (ما أمسك عليك فكل ) على أن في إسناده مجالدا ، ولا يعرف إلا من حديثه، وهو ضعيف، والمعتمد النظر إلى المعنى، وذلك أن كل ما يتأتى من الكلب يتأتى من الفهد مثلا، فلا فارق إلا فيما لا مدخل له في التأثير، وهذا هو القياس في معنى الأصل، كقياس السيف على المدية; التي ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - بها، وقياس الأمة على العبد في سراية العتق.

                                                                                              وقد خالف في ذلك قوم، وقصروا الإباحة على الكلاب خاصة، ومنهم من يستثني الكلب الأسود، وهو الحسن ، [ ص: 206 ] والنخعي ، وقتادة ; لأنه شيطان كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - متمسكين بقوله: (مكلبين) وبأنه ما وقع في الصحيح إلا ذكر الكلاب، وهذا لا حجة لهم فيه; لأن ذكر الكلاب في هذه المواضع إنما كان لأنها الأغلب والأكثر.

                                                                                              وأيضا فإن ذكرها خصوصا لا يدل على أن غيرها لا يصاد بها; لأن الكلب لقب، ولا مفهوم للقب عند جماهير المحققين من الأصوليين، ولم يصر إليه إلا الدقاق ، وليس هو فيه على توفيق، ولا وفاق، ولو صح زعمه ذلك لكفر من قال: عيسى رسول الله; فإنه كان يلزم منه بحسب زعمه أن محمدا وغيره من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - ليس رسولا.

                                                                                              وفي (قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أرسلت ) ما يدل على أن الإرسال لا بد أن يكون من جهة الصائد، ومقصودا له; لأن أفعل فعل الفاعل كأخرج وأكرم، ثم هو فعل عاقل، فلا بد أن يكون مفعولا لغرض صحيح، وفيه مسألتان:

                                                                                              الأولى: أن يقصد الصائد عند الإرسال قصد التذكية والإباحة، وهذا لا يختلف فيه، فلو قصد مع ذلك اللهو; فكرهه مالك ، وأجازه ابن عبد الحكم ، وهو ظاهر قول الليث : ما رأيت حقا أشبه بباطل منه. يعني: الصيد.

                                                                                              فأما لو فعله بغير نية التذكية: فهو حرام; لأنه من باب الفساد وإتلاف نفس حيوان بغير منفعة، وقدنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الحيوان إلا لمأكلة.

                                                                                              الثانية: لا بد أن يكون انبعاث الكلب بإرسال من يد الصائد، بحيث يكون زمامه بيده [فيخلي عنه، ويغريه عليه، فينبعث، أو يكون الجارح ساكنا مع رؤية الصيد، فلا يتحرك له إلا بإغراء الصائد، فهذا بمنزلة ما زمامه بيده] فأطلقه مغريا له على أحد القولين.

                                                                                              فأما لو انبعث الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال، [ ص: 207 ] ولا إغراء: فلا يجوز صيده، ولا يحل أكله; لأنه إنما صاد لنفسه، وأمسك عليها، ولا صنع للصائد فيه، فلا ينسب إليه إرساله; لأنه لا يصدق عليه: (إذا أرسلت كلبك المعلم) ولا خلاف في هذا فيما علمته.

                                                                                              و(قوله: وذكرت اسم الله ) وفي الأخرى: ( واذكر اسم الله ) على الأمر.

                                                                                              وظاهر هذا أنه لا بد من التسمية بالقول عند الإرسال، فلو لم توجد على أي وجه كان لم يؤكل الصيد، وهو مذهب أهل الظاهر، وجماعة أهل الحديث، ويعضدهم ظاهر قوله تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه

                                                                                              وذهب طائفة من أصحابنا وغيرهم إلى أنه يجوز أكل ما صاد المسلم وذبحه، وإن ترك التسمية عمدا، وحملوا الأمر بالتسمية على الندب، وكأنهم حملوا هذه الظواهر على ذكر اسم الله بالقلب، وهو لا يخلو عنه المسلم غالبا، فإنه إذا نوى التذكية فقد ذكر الله تعالى بقلبه، فإن معنى ذلك القصد إلى فعل ما أباحه الله تعالى على الوجه الذي شرعه الله، وهذا كما قاله بعض العلماء في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) أي: من لم ينو، وأصل هذا: أن الذكر إنما هو التنبه بالقلب للمذكور، ثم سمي القول الدال على الذكر: ذكرا، ثم اشتهر ذلك حتى صار السابق إلى الفهم من الذكر القول اللساني.

                                                                                              فأما الآية: فمحمولة على أن المراد بها ذبائح المشركين، كما هو أشهر أقوال المفسرين وأحسنها.

                                                                                              وذهب مالك في المشهور عنه إلى الفرق بين ترك التسمية عمدا أو سهوا، فقال: لا تؤكل مع العمد، وتؤكل مع السهو، وهو قول كافة فقهاء الأمصار، وأحد قولي الشافعي .

                                                                                              ثم اختلف أصحاب مالك في تأويل قوله: [ ص: 208 ] (لا يؤكل) فمنهم من قال: تحريما، ومنهم من قال: كراهة، ووجه الفرق أن الناسي غير مكلف بما نسيه، ولا مؤاخذة عليه، فلا يؤثر نسيانه بخلاف العامد.

                                                                                              و(قوله: وإن قتلن ) هذا لا يختلف فيه أن قتل الجوارح للصيد ذكاة إذا كان قتلها بتخليب، أو تنييب، فأما لو قتله صدما أو نطحا فلا يؤكل عند ابن القاسم . وبه قال أبو حنيفة . وقال أشهب : يؤكل، وهو قول أحد قولي الشافعي . وسبب الخلاف: هل صدم الجارح له أو نطحه كالمعراض إذا أصاب بعرضه، أم لا؟ فشبهه ابن القاسم به; فمنع، وفرق الآخرون: بأن الجوارح حيوان، وقد أمسك على صاحبه، وقد قال الله تعالى: فكلوا مما أمسكن عليكم [المائدة: 4] وليس كذلك المعراض; فإنه لا يقال فيه: أمسك عليك.

                                                                                              قلت: وهذا الفرق لفظي لا فقه فيه، فإن المعراض وإن لم يقل فيه: أمسك عليك; لكنه يقال فيه: أمسك - مطلقا - لأنه لما أصاب الصيد وقتله فقد أمسكه، والأفقه قول ابن القاسم ، والله أعلم.

                                                                                              فأما لو مات الصيد فزعا، أو دهشا، ولم يكن للجوارح فيه فعل: فلا يختلف في أنه لا يؤكل فيما علمت.

                                                                                              و(قوله: فإن أدركته حيا فاذبحه ) هذا يدل على أن المقدور عليه لا تكون ذكاته العقر، بل الذبح أو النحر، وعلى هذا فيجب على الصائد إذا أرسل الجوارح أن يجتهد في الجري مهيئا لآلة الذبح; فإنه إن فرط في شيء من ذلك حتى هلك الصيد بين يدي الجوارح لم يجز أكله; لأنه لما أمسكته الجوارح صار مقدورا عليه، والصائد لو لم يفرط كان متمكنا من ذبحه، فإن أدركه الصائد منفوذ المقاتل فحكمه حكم المقتول; لأنه ميؤوس من بقائه، إلا أن مالكا استحب ذكاته؛ مراعاة للخلاف، هذا هو مشهور قوله.

                                                                                              و(قوله: ما لم يشركها كلب ليس معها ) وفي أخرى: ( فإن خالطها [ ص: 209 ] كلاب من غيرها فلا تأكل ) ، وفي الأخرى: ( وإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل، فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله ) هذه الروايات وإن اختلفت ألفاظها فمعناها واحد، وهذا الاختلاف يدل على أنهم كانوا ينقلون بالمعنى.

                                                                                              وتفيد هذه الروايات أن سبب إباحة الصيد الذي هو عقر الجارح له لا بد أن يكون متحققا غير مشكوك فيه، ومع الشك لا يجوز الأكل. وهذا الكلب المخالط محمول على أنه غير مرسل من صائد آخر، وأنه إنما انبعث في طلب الصيد بطبعه ونفسه، ولا يختلف في هذا، فأما لو أرسله صائد آخر على ذلك الصيد فاشترك الكلبان فيه فإنه للصائدين; يكونان شريكين، فلو أنفذ أحد الكلبين مقاتله، ثم جاء الآخر، فهو للذي أنفذ مقاتله.

                                                                                              و(قوله: فإني أرمي بالمعراض ) قال أبو عبيد : المعراض: سهم لا ريش فيه ولا نصل، وقال غيره: المعراض: خشبة ثقيلة، أو عصا غليظة في طرفها حديدة، وقد تكون بغير حديدة، غير أنها محدد طرفها، وهذا التفسير أولى من تفسير أبي عبيد وأشهر.

                                                                                              و(قوله: إذا رميت بالمعراض فخزق فكل، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله فإنه وقيذ ) معنى خزق: خرق ونفذ. والعرض: خلاف الطول. والوقيذ: الموقوذ; أي: المضروب بالعصا حتى يموت، وبه فسر قوله تعالى: والموقوذة [المائدة: 3]

                                                                                              [ ص: 210 ] وبظاهر هذا الحديث قال جمهور العلماء من السلف والخلف. وقد شذ مكحول ، والأوزاعي فأباحا أكل ما أصاب المعراض بعرضه، وهو قول مردود بالكتاب والسنة; لأنه مخالف لنصوصهما.




                                                                                              الخدمات العلمية