الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا : الآية: 204. قد اختلف الفقهاء في القراءة خلف الإمام. [ ص: 143 ] فقال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح: لا يقرأ فيما جهر ولا فيما أسر. وقال مالك: يقرأ فيما أسر، ولا يقرأ فيما جهر، وهو قول للشافعي ، رواه المزني عنه. وروى البويطي عنه أنه يقرأ بفاتحة الكتاب وسورة فيما يسر فيه، ولا يقرأ فيما يجهر فيه إلا بفاتحة الكتاب. وإذا ثبت ذلك، كان هؤلاء الفقهاء اتفقوا على أن الإنصات مأمور به، فإنا رأيناهم يأمرون بالإنصات فيما يجهر، ويتركون لأجله إما الفاتحة وإما السورة، أما أبو حنيفة ليس يترك القراءة خلف الإمام لغرض الاستماع فإنه يقول فيما أسر فيه الإمام لا يقرأ المأموم، ولأن عنده مقدار الواجب من القراءة آية حقيقة، وذلك يمكن قراءته بعد الإنصات وسماع قراءة الإمام، أو حال هوى الإمام إلى الركوع، ولم يقل أحد إنه يترك دعاء الاستفتاح لقوله: وأنصتوا ، ولا يترك تكبيرات الصلاة لقوله: أنصتوا ، ولا أن أحدا يفهم من هذا، أن الواحد منا إذا كان يقرأ القرآن، فلا يجوز لغيره أن يقعد معه ويقرأ، ولا يجوز في المجلس الواحد أن يقرأ جماعة، كل واحد منهم يقرأ لنفسه، فإذا لم يكن للآية تعلق يمنع الناس من قراءة القرآن، لغرض استماع القرآن في غير الصلاة.

ولا للآية أيضا دلالة على منع قراءة الأذكار، لغرض استماع القرآن في الصلاة، فمن أين دلت الآية على منع القراءة، لا لغرض الاستماع مع إسرار الإمام في الصلاة؟ وقد اعتقد كثير من الناس أن هذه الآية نص. وقال عبد الجبار بن أحمد في كتاب فوائد القرآن -وهو مشهور [ ص: 144 ] بانتحال مذهب الشافعي في الفروع-: إن دلالة ظاهر الآية قوية، وصرح بهذه العبارة التي ذكرناها في الفروع.

وعندنا أن من فهم معنى الآية وفهم الوجوه التي ذكرناها لا يرى للآية تعلقا بما نحن فيه، وللآية محامل: منها أن الناس كانوا يكثرون اللغط والشغب في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمنعون الأحداث من سماعها تعنتا وعنادا على ما حكى الله عن الكفار حيث قال: وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون .

فأمر الله تعالى المسلمين حالة أداء الوحي أن يكونوا على خلاف هذه الحالة، وأن يستمعوا، ومدح الله الجن على ذلك فقال: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين .

ويدل على ذلك أن الله تعالى أمر بالاستماع، وأمر بالإنصات بعده، فلا يخفى على عاقل أن الإنصات للاستماع، وإنما يجب الاستماع متى وجب الإسماع والتبليغ، وإنما وجب ذلك فيما ذكرناه من تبليغ الوحي، فأما ما يقرؤه الإنسان لنفسه، فلا تعلق له بذلك. نعم، يندب المأموم إلى أن لا يجهر بالقراءة خلف الإمام إذا جهر حتى لا تثقل عليه القراءة، فهذا هو القدر المندوب إليه، وإذا لم يجب على [ ص: 145 ] الإمام الإسماع، وليس في الاستماع غرض لأجله يجب الإسماع، فمن أين يجب الاستماع لما لا يجب إسماعه؟ ولو قال قائل مطلقا: لا يجب على المرء أن ينصت ويسمع قراءة القرآن، كان صدقا، وإنما هذا الذي قالوه في الصلاة. ولئن قال قائل: إن الإنصات لتبليغ الوحي لا يختص بالقرآن، وكذلك إن حمل حامل الآية على الخطبة، فالاستماع للخطبة لا يختص بالقرآن، فالذي ذكرتموه يختص بلا دليل. فيقال لهم: وأنتم أيضا خصصتم بلا دليل، فإنه قال: "وإذا قرئ القرآن" وليس يجب الاستماع في غير الصلاة، فالذي ذكرتموه يخصص بلا دلالة.

وقال كثير من أصحاب الشافعي : إن المأموم يتحرى وقت سكتة الإمام، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتان في صلاته، فإن تعذر ذلك فيقرأ وقت قراءته سرا.

وقال آخرون منهم: معنى الإنصات: لا يجهر بالقراءة منازعا للإمام، وإذا أخفى ذلك لم يخرج عن الإنصات. وقد قيل: المراد به: السكوت، حتى لا يقرأ البتة إلا عند فراغ الإمام. وقال هؤلاء: لأجل ذلك أمر المأموم بتأخير القراءة عن حال الجهر أو تقديمه، وذلك إجماع. واعلم أن الذي يوجب تأخير القراءة ليس يوجب بدليل الآية على وجوب استماع قراءة القرآن مطلقا، فإن دلالة الآية في الصلاة وغيرها واحدة، وإنما يقول ذلك ليجمع بين سماع المتدبرين وإنصات المعتبرين [ ص: 146 ] وقراءة المصلين، وإذا لم تكن القراءة في حالة سكتة الإمام، فالقراءة أولى كما يكبر ويقرأ دعاء الاستفتاح، ولا يترك المفروض من القراءة لمكان فضيلة الجماعة، فهذا هو التأويل الظاهر.

وبالجملة; لا يخفى على عاقل أن الله سبحانه وتعالى إذا أمر بالاستماع والإنصات، فإنما أمر به ليكون داعيا إلى ترك باطل من اللهو والهزء وأشغال الدنيا، لا ليكون ذلك داعيا إلى ترك مفروض عند الله تعالى عز وجل، وهذا بين.

ويدل عليه ما روي عن محمد بن كعب القرظي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ في الصلاة أجابه من وراءه، فإذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا مثل ما يقول، حتى يقضي فاتحة الكتاب والسورة، فلبث ما شاء الله أن يلبث، فنزل قوله تعالى: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون . وهذا يدل على أن المعين بالإنصات: ترك الجهر على ما كانوا يفعلون من مجاوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: في هذه الآية: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيقول: كم صليتم؟ كم بقي؟ فأنزل الله تعالى: [ ص: 147 ] وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون . وعن مجاهد قال: كانوا يتكلمون في الصلاة بحاجاتهم فنزل قوله: وأنصتوا لعلكم ترحمون .

التالي السابق


الخدمات العلمية