الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              2162 [ ص: 461 ] 21 - باب في جامع النكاح

                                                              162 \ 2076 - وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ملعون من أتى امرأته في دبرها .

                                                              وأخرجه النسائي وابن ماجه .

                                                              التالي السابق




                                                              قال ابن القيم رحمه الله: هذا الذي أخرجه أبو داود في هذا الباب، وقد بقي في الباب أحاديث أخرجها النسائي، ونحن نذكرها.

                                                              الأول:، عن خزيمة بن ثابت أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن .

                                                              الثاني: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلا سأله عن الرجل يأتي امرأة في دبرها ؟ قال: "تلك اللوطية الصغرى" . رفعه همام، عن قتادة، عن عمرو، ووقفه سفيان، عن حميد الأعرج، عن عمرو، وتابعه مطر الوراق، عن عمرو بن شعيب موقوفا.

                                                              الثالث:، عن كريب، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ينظر الله إلى [ ص: 462 ] رجل أتى رجلا أو امرأة في دبر . هذا حديث اختلف فيه: فرواه الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان، عن كريب، عن ابن عباس، فرواه وكيع، عن الضحاك موقوفا، ورواه أبو خالد عنه مرفوعا، وصحح البستي رفعه، وأبو خالد هو الأحمر.

                                                              الرابع:، عن ابن الهاد، عن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تأتوا النساء في أدبارهن .

                                                              الخامس: حديث أبي هريرة، وقد تقدم. وله، عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا ينظر الله إلى رجل أتى امرأة في دبرها .

                                                              السادس:، عن علي بن طلق قال: جاء أعرابي، فقال: يا رسول الله، إنا نكون في البادية فيكون من أحدنا الرويحة، فقال: إن الله لا يستحيي من الحق، ولا تأتوا النساء في أعجازهن .

                                                              [ ص: 463 ] السابع:، عن ابن عباس قال: جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكت قال: وما الذي أهلكك ؟ قال حولت رحلي الليلة، فلم يرد عليه شيئا. فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم : يقول: أقبل وأدبر، واتق الدبر والحيضة .

                                                              قال أبو عبد الله الحاكم: وتفسير الصحابي في حكم المرفوع.

                                                              الثامن:، عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أتى حائضا ؛ أو امرأة في دبرها، أو كاهنا، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .

                                                              ثم ذكر أبو داود تفسير ابن عباس لقول الله تعالى فأتوا حرثكم .

                                                              [ ص: 464 ] ثم قال ابن القيم : وهذا الذي فسر به ابن عباس فسر به ابن عمر، وإنما وهموا عليه، لم يهم هو. فروى النسائي، عن أبي النصر أنه قال لنافع: "قد أكثر عليك القول أنك تقول، عن ابن عمر: إنه أفتى بأن يؤتى النساء في أدبارها. قال نافع: لقد كذبوا علي، ولكن سأخبرك، كيف كان الأمر ؟ إن ابن عمر عرض المصحف يوما، وأنا عنده، حتى بلغ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم قال: يا نافع، هل تعلم ما أمر هذه الآية ؟ إنا كنا معشر قريش نجبي النساء، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن مثل ما كنا نريد من نسائنا، فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه، وكانت نساء الأنصار إنما يؤتين على جنوبهن، فأنزل الله عز وجل نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ".

                                                              فهذا هو الثابت، عن ابن عمر، ولم يفهم عنه من نقل عنه غير ذلك.

                                                              ويدل عليه أيضا ما روى النسائي، عن عبد الرحمن بن القاسم قال: قلت لمالك: " إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدث، عن الحارث بن يعقوب، عن سعيد بن يسار قال: قلت لابن عمر. إنا نشتري الجواري فنحمض لهن، قال: وما التحميض ؟ قال نأتيهن في أدبارهن، قال أف! [ ص: 465 ] أويعمل هذا مسلم ؟ فقال لي مالك: فأشهد على ربيعة لحدثني عن سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر عنه ؟ فقال: لا بأس به" .

                                                              فقد صح، عن ابن عمر أنه فسر الآية بالإتيان في الفرج من ناحية الدبر، وهو الذي رواه عنه نافع، وأخطأ من أخطأ على نافع، فتوهم أن الدبر محل للوطء لا طريق إلى وطء الفرج، فكذبهم نافع.

                                                              وكذلك مسألة الجواري، إن كان قد حفظ، عن ابن عمر أنه رخص في الإحماض لهن، فإنما مراده إتيانهن من طريق الدبر، فإنه قد صرح في الرواية الأخرى بالإنكار على من وطئهن في الدبر، وقال " أويفعل هذا مسلم " ؟ ! فهذا يبين تصادق الروايات وتوافقها عنه.

                                                              فإن قيل: فما تصنعون بما رواه النسائي من حديث سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عمر: أن رجلا أتى امرأته في دبرها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد من ذلك وجدا شديدا، فأنزل الله عز وجل نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " ؟

                                                              قيل: هذا غلط بلا شك، غلط فيه سليمان بن بلال، أو ابن أبي أويس راويه عنه، وانقلبت عليه لفظة " من " بلفظة " في " وإنما هو " أتى امرأة من دبرها "، ولعل هذه هي قصة عمر بن الخطاب بعينها، لما حول رحله، ووجد من ذلك وجدا شديدا، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم " هلكت "، وقد تقدمت، أو يكون بعض الرواة ظن أن ذلك هو الوطء في الدبر فرواه بالمعنى الذي ظنه، [ ص: 466 ] مع أن هشام بن سعد قد خالف سليمان في هذا، فرواه، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار مرسلا.

                                                              والذي يبين هذا ويزيده وضوحا: أن هذا الغلط قد عرض مثله لبعض الصحابة حين أفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بجواز الوطء في قبلها من دبرها، حتى بين له صلى الله عليه وسلم ذلك بيانا شافيا.

                                                              قال الشافعي: أخبرني عمي قال: أخبرني عبد الله بن علي بن السائب، عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح، أو، عن عمرو بن فلان بن أحيحة - قال الشافعي: أنا شككت - ، عن خزيمة بن ثابت: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، عن إتيان النساء في أدبارهن، أو إتيان الرجل امرأته في دبرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حلال، فلما ولى الرجل دعاه، أو أمر به فدعي، فقال: كيف قلت ؟ في أي الخربتين، أو في أي الخرزتين، أو في أي الخصفتين ؟ أمن دبرها في قبلها ؟ فنعم، أم من دبرها في دبرها ؟ فلا، إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن .

                                                              قال الشافعي: عمي ثقة، وعبد الله بن علي ثقة، وقد أخبرني محمد - وهو عمه محمد بن علي - ، عن الأنصاري المحدث به أنه أثنى عليه خيرا، وخزيمة ممن لا يشك عالم في ثقته، والأنصاري الذي أشار إليه هو [ ص: 467 ] عمرو بن أحيحة.

                                                              فوقع الاشتباه في كون الدبر طريقا إلى موضع الوطء، أو هو مأتى. واشتبه على من اشتبه عليه معنى " من " بمعنى " في " فوقع الوهم.

                                                              فإن قيل: فما تقولون فيما رواه البيهقي، عن الحاكم: حدثنا الأصم قال سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم يقول: سمعت الشافعي يقول: ليس فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحريم والتحليل حديث ثابت، والقياس أنه حلال، وقد غلط سفيان في حديث ابن الهاد - يريد حديثه، عن عمارة بن خزيمة، عن أبيه يرفعه إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن ، ويريد بغلطه: أن ابن الهاد قال فيه مرة:، عن عبيد الله بن عبد الله بن حصين، عن هرمي بن عبد الله الواقفي، عن خزيمة.

                                                              ثم اختلف فيه، عن عبيد الله. فقيل عنه، عن عبد الملك بن عمرو بن قيس الخطمي، عن هرمي، عن خزيمة، وقيل:، عن عبد الله بن هرمي، فمداره على هرمي بن عبد الله، عن خزيمة، وليس لعمارة بن خزيمة فيه أصل، إلا من حديث ابن عيينة. وأهل العلم بالحديث يروونه خطأ. هذا كلام البيهقي.

                                                              قيل: هذه الحكاية مختصرة من مناظرة حكاها الشافعي، جرت بينه وبين محمد بن الحسن، وفي سياقها دلالة على أنه إنما قصد الذب عن أهل المدينة على طريق الجدل، فأما هو فقد نص في كتاب عشرة [ ص: 468 ] النساء على تحريمه. هذا جواب البيهقي.

                                                              والشافعي رحمه الله قد صرح في كتبه المصرية بالتحريم واحتج بحديث خزيمة، ووثق رواته، كما ذكرنا. وقال في الجديد: قال الله تعالى نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ، وبين أن موضع الحرث هو موضع الولد، وأن الله تعالى أباح الإتيان فيه إلا في وقت الحيض، " وأنى شئتم " بمعنى من أين شئتم ؟ قال: وإباحة الإتيان في موضع الحرث يشبه أن يكون تحريم إتيان غيره، فالإتيان في الدبر حتى يبلغ منه مبلغ الإتيان في القبل محرم، بدلالة الكتاب ثم السنة، فذكر حديث عمه، ثم قال: ولست أرخص فيه،بل أنهى عنه".

                                                              فلعل الشافعي رحمه الله توقف فيه أولا، ثم لما تبين له التحريم وثبوت الحديث فيه رجع إليه، وهو أولى بجلالته ومنصبه وإمامته من أن يناظر على مسألة يعتقد بطلانها، يذب بها عن أهل المدينة جدلا، ثم يقول: والقياس حله، ويقول: ليس فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحريم والتحليل حديث ثابت، على طريق الجدل، بل إن كان ابن عبد الحكم حفظ ذلك، عن الشافعي فهو مما قد رجع عنه لما تبين له صريح التحريم. والله أعلم.




                                                              الخدمات العلمية